TOP

جريدة المدى > سينما > التسامح بلغة السينما.. قراءة في فيلم "رجل سكة القطار"

التسامح بلغة السينما.. قراءة في فيلم "رجل سكة القطار"

نشر في: 17 سبتمبر, 2014: 09:01 م

عندما تدور عجلة السينما، صانعة للدهشة والجمال والمتعة والمنفعة في آن.، فإنها تختار ان تدون بمشهدياتها وحكاياتها وحوادثها وحواراتها وانتقالاتها البصرية، ما يأخذ بالنفس الإنسانية الى اعلى قمة الحس والشعور والمدركات المعقلنة بوقائع التاريخ ومحوره الانسا

عندما تدور عجلة السينما، صانعة للدهشة والجمال والمتعة والمنفعة في آن.، فإنها تختار ان تدون بمشهدياتها وحكاياتها وحوادثها وحواراتها وانتقالاتها البصرية، ما يأخذ بالنفس الإنسانية الى اعلى قمة الحس والشعور والمدركات المعقلنة بوقائع التاريخ ومحوره الانسان..، حيث الزمان الهارب والمكان المتحول..وهنا ندرك اعاجيبية الفن السينمائي وهو يؤسس لحيوات كبيرة التجارب على امتداد الوجود ممسكاً باللحظات الهاربة مشيراً الى حكايات تحدث على مدار الساعات، يسطرها بلغة تشاكس الحواس والغرائز وطبائع الذوات الانسانية وظيفياً ودلالياً..السينما اختراع العقل العظيم وهو يشيد وفرة الرؤى ورقيها وجمال الصورة وهارمونيتها اللونية الآسرة..،وفرادة الأحداث ومركزيتها في الواقع والمتخيل وجدوى الحوار وبناء الجمل والمفردات بعيداً عن الاسترسال والترهل، كيما تتصف لغة السينما، بالتكثيف والإيجاز والبساطة والعمق في طرح فكرة  وموضوعة الفيلم.
التسامح كان موضوع فيلم " رجل سكة الحديد" المأخوذ عن قصة حقيقية للمؤلف "ايرك كولماس" الذي أدى دوره ببراعة "كولن فيرن" . زمان الفيلم العام 1942م في احدى مناطق سنغافورة التي خضعت للاحتلال الياباني، حيث يقع فريق من الجهد الهندسي البريطاني والجنود المشاة في قبضة اسر القوات اليابانية، ويصار الى إنشاء شبكة السكك الحديد الممتدة من تايلاند والى بورما..وتحويل الأسرى الى أعمال شاقة لإنجاز السكة الحديدية العملاقة، معلنة عن بدء رحلة الآلام.
* (في بدء الوقت، الساعة دقت الواحدة..ثم هطل الندى والساعة دقت الثانية، من قطرة الندى نمت شجرة والساعة دقت الثالثة..ومن الشجرة صُنعت باب، والساعة دقت الرابعة..ثم وُلد الانسان.. والساعة دقت الخامسة..لاتحصي لا تضيع..الساعات الموجودة على الساعة..وها انا اقف امام الباب واقرعها 1980م).
هذه السوناتة الشعرية الرائعة ترد على لسان بطل الفيلم ايرك كولماس(كولن فيرث) بمشهد معاناة يستذكر فيه المعتقل فصول عذابه، بلغة نفسية تشد المتلقي من الوهلة الاولى.. يبدو ان الحرب لم تنته من وجهة نظر كولماس وهو يحيا تفاصيلها كل يوم كما يذكر ذلك البطل..،انتهاك وقهر جسدي ونفسي، أوغل اليابانيون في ممارسته ضده ، اثر صنعه جهاز راديو لسماع اخبار الحرب ..بعد ان انقطع الجنود البريطانيون عن العالم الخارجي في منطقة نائية، وإرغامهم على إنشاء وإكمال خط السكك الحديدية. أخبار سارة عن تقدم الحلفاء في الحرب أثلجت صدور الأسرى البريطانيين إلا أن هذه الفرحة لم تدم حينما انكشف سر الراديو، ليحمل كولماس على كاهله نيابة عن إخوته، ذنب صناعة الراديو وينال اشد العقاب بأقسى أساليب وآليات النيل من الانسانية..الا ان كولماس تماسك ولم ينهار.
"الكيمبتاي" تعني في اليابانية الشرطة العسكرية السرية..الضابط تاكاشي ناغاساي كان مترجماً ومن الكيمبتاي وقد اصر على إيذاء كولماس وإيلامه بشتى الطرق الجسدية والنفسية، بيد ان لكل شيء اجل.، فقد وضعت الحرب أوزارها ومضت السنون، وانضم كولماس الى نادي المحاربين القدامى في لندن.
كولماس الشغوف بالقطارات مصادفة يلتقي بباتي(نيكول كدمان) لتصبح زوجته التي تصطدم بهلاوسه وحالاته الهستيرية في اليقظة والمنام، لتبدأ رحلة البحث عن الأسباب والمسببات، آزر شكوكها عثورها على كراسة للرسم كان كولماس قد وثق فيها رسومات تدل على ممارسات القسوة والاضطهاد تجاهه من قبل الاخرين، تقودها قدماها ذهبت باتي الى نادي المحاربين وهناك التقت بـ(المعلم) كما كان يطلق عليه أيام الحرب فينلي(ستيلن سكارسكارد)، أرغمته على بيان حالة زوجها، فسرد فينلي الذي اخبرها بأن الحرب تترك علامة، قصة الراديو وخارطة السكك الحديد وعذابات ايرك كولماس.
يذكر الفيلسوف الانكليزي برتراند راسل ان( الحياة أقصر من أن نقضيها في تسجيل الأخطاء التي يرتكبها غيرنا في حقنا أو في تغذية روح العداء بين الناس.)، اليس هذا ابسط مفهوم للتسامح او التساهل او الاحترام حسب تعريفات اللغويين والاجتماعيين والمثقفين وهو سياق يمتد على كامل المناخات والمجالات الدينية والسياسية والاجتماعية..الخ.؟
لكن كولماس يغلي قلبه بالكراهية ضد الاخر"معذبه" يرغب بالثأر لكرامته ، هذه الرغبات بقيت طي نفسه حتى عثر فينلي على صحيفة تذكر ناغاسي"الكيمبتاي" المجرم الذي عذب كولماس، يرد في الصحيف ان ناغاسي يعمل مرشداً سياحياً في سكك القطار، فينلي يرغب بأن يثأر كولماس لنفسه ولزملائه، الا ان كولماس يبلغه بانه بعد مرور السنوات وتعدد مهنهم لم يعد جندياً وان فينلي ليس بمعلم كما في السابق بمشهد مؤثر تترى فيه العواطف والأحاسيس بعدسة كاميرات لعبت دوراً كبيراً في تأسيس حوارية نفسية بلغة بصرية بارعة ومؤثرة. فاللقطات تنوعت بين الطويلة والمتوسطة والقريبة مع التقطيع المونتاجي والتوليفة القصصية المحبوكة بعناية فائقة بلا زوائد تفيض عن حاجة الفن السينمائي.
(التسامح مفهوم يعني العفو عند المقدرة وعدم رد الإساءة بالإساءة والترفع عن الصغائر والسمو بالنفس البشرية الى مرتبة أخلاقية عالية والتسامح كمفهوم أخلاقي اجتماعي دعا اليه كافة الرسل والأنبياء والمصلحين لما له من دور وأهمية كبرى في تحقيق وحدة وتضامن وتماسك المجتمعات والقضاء على الخلافات والصراعات بين الأفراد والجماعات , والتسامح يعني احترام ثقافة وعقيدة وقيم الآخرين وهو ركيزة أساسية لحقوق الإنسان والديمقراطية والعدل والحريات الإنسانية العامة.)
التسامح قيمة عليا أضفت على حياتنا ابعاداً إنسانية إيجابية عظيمة مهما تعددت مصادرة واختلفت متبنياته..لغة عالمية تحكم الانسانية بالاحترام المتبادل بين جميع أطيافها باختلاف متبنياتهم وسلوكياتهم، فالتعدد والاختلاف والتباين هو إثراء للتجربة الانسانية.
لكن كولماس مازال في نفسه حقد وكراهية وآلام تجاه تاريخه المرير، لم تحن اللحظة بعد ليطهر نفسه من أدرانها وآفاتها النفسية والاجتماعية. فينلي ابلغ باتي( سأقوم بإرسال رسالة الى كولماس، شيء لايمكن ان يتجاهله). لقد انتحر فينلي على احد الجسور..ما اقسى هذه الرسالة التي لم تترك خياراً لباتي بأن تمنع زوجها من الذهاب للقاء ناغاسي.
ناغاسي يقود فرقة من السائحين يخبرهم: (أنا أتيت من اليابان الى هنا لأقدم قرابيني وهذا هو عامي السابع والخمسين في تقديم قرابيني)، القرابين المعادل الموضوعي للتكفير عن الذنوب..ويبدو ان ناغاسي في طور مراجعات النفس..حيث يسمع كلماته ويرقبه كولماس..ليبدأ بعها اللقاء المرتقب بين الغريمين ليخضع ناغاساي لمشيئة كولماس..يردد ناغاساي:( انا اعمل من هنا من اجل تلك المسالمات).يحدث التطور لكولماس بعد ان يشفق على الكيمبتاي السابق..ليعلن:( في وقتٍ ما لابد من وضعِ حدٍ للكراهية)، ما ابلغ العبارة ويا لسمو النفس وهي تنفض عنها غبار السلب وتحتفي بالتسامح الكبير." رجل سكة القطار" يحفل بقيم التسامح والاحترام واعتماد انسانية الانسان كقيمة عليا في الوجود.
طاقم العمل والتمثيل
إخراج: جونوثان تبليتزكي
إنتاج: آندي باترسون, بيل كوربيشيلي, كريس براون
سيناريو: آندي باترسون, فرانك كوترل بويسي
تصوير: غاري فيليبس
مونتاج: مارتن كونور
موسيقا: ديفيد هيرشفيلدر
مشاركة: تانرو اشيدا, جيريمي إيرفاين, سام ربد, ستلان سكارسغورد, كولين فيرث, نيكول كيدمان, هيروكي ساندا

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية

السينما كفن كافكاوي

مهرجان الجونة السينمائي يعلن عن مواعيد دورته الثامنة

مقالات ذات صلة

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية
سينما

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية

متابعة المدىوديفيد كيث لينش صانع أفلام وفنان تشكيلي وموسيقي وممثل أمريكي. نال استحسانًا لأفلامه، والتي غالبًا ما تتميز بصفاتها السريالية الشبيهة بالأحلام. في مسيرة مهنية امتدت لأكثر من خمسين عامًا، حصل على العديد من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram