صادفت اليوم"برحياً"بصراوياً في مواد غوغل مكتوباً بحرف لاتيني، فهرعت الى السوق ووجدته قد وصل اربيل. وها هو امامي، اشمه مثل غرض كنز ضائع، لينقلني شذاه عبر الازمان الدافئة. افكر الان لا في النخيل مقطوعة الرأس من حرب الثمانينات، بل في نخيل حول اماكن الحرب على داعش، تنتظر قطع رؤوسها.
وبما يشبه الفرض او النذر، أكتب كل سنة في الخريف شيئا عن النخيل. ليس مجرد حنين لمنظر مهيب كنت أحدق في تفاصيله بذهول كلما بدأت يومي بفتح النافذة ورؤية الحقول التي تمتد حول منزل الطفولة بالبصرة. ولا لمحض أن"إخوان الصفا"اعتبروها"إنسانا"بمقاربة داروينية مبكرة، وأن صديقا كان يتفاخر أمامي بأن في وسعه رؤية آثار أقدام جده على الجذع، ويجعلني أتفحص ساق الشجرة باحثا عن آثار أقدام الآلهة العراقية التي كتبت الأساطير وهي تتحسس رائحة السعف والعذوق، حين يكون الجذع مجرد معبر للآلهة. وها قد بات بلد التمر البراق، حقل نفط مسخم (وهل هذا سواد يليق بأرض السواد)، ينشغل عن إحصاء الشجر، بحساب كميات الموت وحماقات الساسة، منذ ٣٠ عاما.
النخلة"أقرب إلى الإنسان"كما سجل إخوان الصفا في رسائلهم، حين تحدثوا عن سلّم الكائنات الحية بكلام يشبه ما سيقوله دارون ولامارك لاحقا. فهي"النبات الوحيد الذي يموت حين تقطع رأسه، كالإنسان".
الجذع يحفظ آثار أقدام العراقيين منذ الأزل، وهم يصعدون نحو"العذوق والشراميخ"متفننين برعاية"الطلع والحبابوك والكمري (بالجيم الفارسية)"ثم"الخلال والرطب والتمر". ومن بين السعف، انطلق العراقيون نحو مصائر شتى فنقشوا الحروف في سومر وصنعوا العجلة في بابل والمكتبات في آشور، ثم أضافوا لقلب حضارة الإسلام بصمة تنوع لا تنسى. وهو لم يكن مجرد جذع بقدر ما كان"ممرا للآلهة"التي خلقت العالم القديم، ثم تسلقته وكتبت الأساطير"في العلى".
لقد فقد جني التمور وقصها كثيرا من زهوه السابق، لأن الروح كسيرة ومليئة. كيف سنحكي لابنائنا هذه القصة؟ لقد كان اجدادكم يغنون بلا توقف وهم يتسلقونها بفرح، أما هذه الأيام فنشاهد"الصاعود"صامتا وهو معلق بين الأرض والسماء، وفي أُذنه سماعة مربوطة بهاتف ذكي يبث أغنية، أو نشيدا دينيا حزينا، وربما أخبارا عن تناحر الطوائف، او صوت سياسي احمق يدعو للثأر الخائب، وشيئا لا يحب النخيل سماعه.
وفضلا عن صمته فإن آلة تسلق الجذع،"التبلية"أو"الفروند"، لم تعد أنيقة كما في السابق. هي اليوم مجرد سلك معدني بلا روح، يشد قطعة قماش متهرئة، كما شاهدتها في حقول النهروان واليوسفية. أما في الماضي فكان"الفروند"تحفة فنية ورأيته يصنع في أبي الخصيب من ألياف جوز الهند و"الكمبار"والحبال المستخدمة في السفن، بعروتين من الخشب المنحوت بعناية، معقودتين بإحكام.
سنظل نتذكر بحزن كيف أتيح لآبائنا ان ينصتوا بين الغابات، للهجات الطيور الملونة، ويتفقدوا مسارات الأنهار، ويحسبوا أنواع النبات البري وسط غابات النخيل، يوم كانت تحيط بمدننا تلك الحقول التي سحرت مؤلفي الأساطير الدينية والشعراء وناسخي مباحث المعتزلة والنحويين ومبدعي علم البصريات والخلفاء والعساكر والغزاة.
إنني أكتب فرض الخريف منذ اربعة اعوام، وأعيد ما سجلته العام الفائت، بلغة الاعتذار لروح الطبيعة التي خذلناها فخذلتنا.
ان النخلة، وآثار أقدام سلالاتنا العراقية على جذعها، خارطة لما تبقى من اصالة هذه الأرض وآمالها. وهي إذ كانت شبيه الانسان عند إخوان الصفا، فهي أيضا"آخر العراقيين العظماء".
نذر اكتبه كل خريف
[post-views]
نشر في: 17 سبتمبر, 2014: 09:01 م