رحل المفكر والكاتب ورجل الدين والناشط السياسي (التنويري) هاني فحص ليترك لنا، أصدقائه وقرائه، أصحابه وخصومه، أكثر من درس في شؤون دنيانا، وحتى ديننا، لتكون المصادفة خارج المحبة والقدر مسألة غير قابلة للجدل، بخلاف ما كان عليه السيد فحص، واحداً من أندر رجال الدين الإسلامي المعاصرين الذين نذروا حياتهم للجدل والاختلاف والتنوع وتعدد الاشتغالات وتلون الذائقة الشخصية في الأدب العربي (يتمتع بحافظة ممتازة ليردد على أسماعنا، نحن المحيطين به في مهرجان (المدى) عام 2006 ، أربيل، مقاطع من الشعر العربي القديم والحديث قل أن نحفظ مثلها نحن الشعراء (المحترفين!) ومن مختلف العصور، بدءاً بما يسمى بـ (الجاهلي) وانتهاء بما يسمى بـ (الحديث) وبلهجته العراقية (النجفية) المشوبة باللبنانية (النبطية) أو العكس وهو يتحرك لسانياً في المنطقة المشتركة بينهما، وهو أحد رواد (المشتركات) في الفلسفة والأدب والدين والسياسة، وهو الحريص على بلوغ الآخر يخترع لهجته البيضاء بين اللغة واللهجتين.
يسترسل السيد المُشعرَنُ من عمامته حتى قلبه وتتدفق منه الأبيات والمقطعات الشعرية من محمد مهدي الجواهري ومعروف الرصافي وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل حتى يبلغ مظفر النواب (يكضن وارد يا ديرتي لحسنج....) ليتحلل بعد تناول العشاء من جبته وعمامته متبسّطاً أكثر مع من حوله بالدشداشة والطاقية لا غير، ليكسر هيأته المعروفة بأبسط منها وكأنه يبعث بشيفرة موجزة لنا، نحن مجالسيه، توجز هيأة رجل الدين إلى إنسان بسيط تخلى عن "رمزيته" ولو إلى حين معلناً انتماءه إلى "أدياننا" كلها، إذ بدا لي بالدشداشة البيضاء والطاقية الصغيرة أشبه بقس.
وللسيد فحص "طبخته الخاصة" اللذيذة إلى أبعد الحدود. لنقرأ له:
".. ومن دمشق صالح العلي والقسام وجول جمال وبدوي الجبل وفارس الخوري كنا ندلف إلى بغداد، من دمشق حبل سرتنا إلى العلم والأدب، من السيدة زينب وحجر بن عدي إلى النجف وكربلاء ومن الحميدية والمسجد الأموي والمعمدان ويوحنا فم الذهب وابن عساكر وابن عربي ونور الدين وصلاح الدين، إلى علي ونهج البلاغة والسبط الشهيد والأحفاد، ونعود مفعمين علماً وأدباً ولغة عربية وقراراً بالجهاد ضد الفرنسيين والصهاينة واحتضان المقاومة الفلسطينية والصبر على الخطأ لأن جبل الجليل شقيق جبلنا ورفيقه إلى الأبد لم يغب عن عيوننا وشوقنا أن نرى القدس من قممه.. ولهجة عراقية ومصطلحات يومية من "الاستكانة"، لكوب الشاي ذي الخصر اللطيف والفم المذهب إلى "النومي بصرة" الحامض العماني إلى المائدة وأصناف الطعام من المسمّى إلى القيمة إلى الفسانجون والقيمر وتشريب الباقلة والرطب والبرحي".
فوجئ بشلتنا العابثة ونحن نحتسي "المنكر" في إحدى الليالي أثناء مروره مصادفة قربنا، وبدلاً من أن يتطير، أو تفلت منه ردة فعل غير محسوبة، لم يبسمل أو يحوقل بل ألقى علينا التحية وغض طرفه وهو يتمنى لنا ليلة سعيدة على وفق أريحية أمير أرستقراطي متحضر، ودفع عنا وعن نفسه لحظة إحراج لا بد أن تقع بين رجل دين وشلة عابثة.
السيد فحص اشتغل في السياسة، نعم. إسلامي شيعي، ومرشح في الانتخابات اللبنانية مرتين، وحلقة الوصل بين ياسر عرفات والإمام الخميني إثر انتصار الثورة الإيرانية على الشاه، وقبلها كان قومياً عربياً، ومن الفرحين بعبد الناصر، ثم تخلى عن فكرته القومية لينتمي إلى مدنية الفكر وفكر المدنية، خارج الأقفاص والصناديق رغم واقعيته الإسلامية الشيعية التي تشبه واقعية روجيه غارودي: بلا ضفاف.
وإذا استكثر بعضهم أن نعد السيد فحص عمامة تنويرية، لأن الدين لا يستقيم والتنوير، أقول: ولماذا تقبّلَنا الرجل ونحن لا نتقبّلُه؟
السيد فحص نسيج وحده، ومن النادرين.
تأبط ذراعي في لوبي الفندق (أربيل) وسحبني جانباً، (كنت أهديته نسخة ورقية من قصيدة لي تتحرش بآيات الله) قال: قرأت قصيدتك.. أعجبتني ولم تعجبني. وخزتني القصيدة. ربما فرحت في سري لأن القصيدة قد وخزتك، فذلك أحد مراميها، يا مولاي، وربما كان سوء تقدير مني في الرهان على أبعد من السقف الأقصى في فكر عمامة تنويرية.. وعليه أعتذر منك أيها الكبير.
هاني فحص.. عمامة التنوير والاختلاف
[post-views]
نشر في: 22 سبتمبر, 2014: 09:01 م