3-3
ذكرت في العمود السابق، كيف أن نجيب محفوظ اهتم منذ شروعه بالكتابة، بفهم الرواية بصفتها المجال الديموقراطي الذي لا يعلو فيها صوت على الصوت الإنساني، كما أنه وضع عن طريق نقاشاته على صفحات مجلة الرسالة في نهاية سنوات الثلاثينات الحجر الأساس الذي اعتمد عليه في بناء خصوصيته الروائية "الديموقراطية" كما جئت على الكاتب المصري أحمد عباس العقاد، الذي انتبه مبكراً لخطر التوجه الجديد للشاب محفوظ، أمر جعله يحذر من خطر كتابة الرواية عامة لأنها حسب وجهة نظره تجسد انحطاطاً للأدب والثقافة ، مثلها مثل كل أصناف النثر الأخرى. النثر بالنسبة للعقاد هو نزول إلى ذوق العامّة، على عكس الشعر الذي هو تعبير عن رقي المجتمع بعرفه ولكي يثبت نظريته في هجومه على الرواية وعلى محفوظ بالذات كتب في إحدى أكثر مقالاته سذاجة وديماغوجية، "أنظروا كيف تآمر البلاشفة على العالم عن طريق روائييهم أمثال بوشكين وغوغول وجعلوا العامة والغوغاء أبطالاً لكتاباتهم"! نجيب محفوظ الذي دافع بحماس عن الرواية وعن النثر عموماً وفند ادعاءات العقاد، عرف أن الردّ الأمثل على كتّاب رجعيين مثل العقاد هو الكتابة الجميلة بالاتجاه الذي أراد السير عليه، بصفته الأسلوب الروائي الذي لابد وأن يكون: تعددية الأصوات، هذا ما فعله أيضاً في ثلاثيته المشهورة، ثلاثية القاهرة ، فبعد صمت عن الكتابة من عام 1949، عام نشر روايته "بداية ونهاية" وحتى نشر الجزء الأول من ثلاثيته "بين القصرين"، في عام 1956 توقف نجيب محفوظ عن الكتابة لأن صدمة التغيير الذي حصل بعد يوليو 1952، وتسلم العسكر السلطة، حملته على التفكير بالجواب الروائي الصحيح عليها. نعم، هناك وضع جديد، فماذا عليه ان يكتب؟ الردّ كان هو ثلاثيته التي لو أردنا حصرها في الجانب السياسي فهي رد حكيم من روائي "ديموقراطي" على ديكتاتورية العسكر وعلى الاتحاد الإشتراكي، الحزب الأوحد الذي أسسه جمال عبدالناصر. الثلاثية هي أيضاً وبشكل ما الولادة الجديدة لمحفوظ الذي يعيش التغيير الجديد لكن الذي سيظل على مسافة منه وحتى مجيء الرئيس أنور السادات.
صحيح أن محفوظ نأى بنفسه عن التصريحات السياسية في زمن عبدالناصر، ومن أجل معرفة رأيه لما دار حوله، كان يحيل سائليه لقراءة رواياته، لكنه عندما رأى الرئيس المصري السابق أنور السادات يزور إسرائيل ويوقع معها معاهدة سلام، خرج من صمته فجأة ليدلو برأيه في المناسبة التاريخية تلك، حتى اليوم لا يريد البعض تصديق أن كاتباً ديموقراطياً، مثل محفوظ، ليس أمامه غير مساندة السلام.
لم يهم محفوظ لا فيما يقول الآخرون بسبب موقفه الثابت المؤيد للسلام في السياسة ولا لما سيصل عليه من ثمن لموقفه الديموقراطي الثابت في الرواية ، والذي توّجه أخيراً في روايته "أولاد حارتنا" عندما جعل العلمانية تنتصر على السلطة الدينية ، والذي جاءه على شكل طعنة سكين من إرهابي إسلامي، (لحسن الحظ كانت السكين عمياء). نجيب محفوظ ظل حتى وفاته وفياً لنفسه: كاتباً مستقلاً وديموقراطياً وداعية سلام.
مات نجيب محفوظ كاتباً كبيراً وحقق حلمه بالحصول على جائزة النوبل، لكنه مات ولم يحقق حلمه في السلام . ذلك هو على الأقل الدرس الملقى على عاتقنا أن نكمل الطريق الذي بدأ هو بالسير عليه.
الرواية الأولى التي كتبها نجيب محفوظ حملت عنوان "عبث الأقدار" فهل هو قدره العبثي أن ذكرى مئويته التي مرت قبل ثماني سنوات، مرت في مصر بالذات بصمت؟ وأن بلداناً أخرى احتفت به، منها نضعها في خانة العدو، "إسرائيل" مثلاً، فأي قدر عبثي أكثر من ذلك عاشه نجيب محفوظ، هو الذي وليس غيره الذي رفع أسم مصر في كل مكان؟
عن نجيب محفوظ داعية للسلام
[post-views]
نشر في: 23 سبتمبر, 2014: 09:01 م