"دافعوا عن وطن تولستوي وبوشكين ودستوفسكي" العبارة الشهيرة التي قالها ستالين ساعة التصدي لهجوم هتلر على موسكو، يقولها اللبنانيون بشكل آخر ربما : فهم يقولون "دافعوا عن وطن فيروز ووديع الصافي واليسا وهيفاء وهبي" ومثلها يقولها المصريون : "دافعوا عن وطن أحمد شوقي ونجيب محفوظ وام كلثوم وعبد الحليم حافظ" وهكذا تتدافع الشعوب لتحمي رموز حياتها وقيمة وجودها المعنوي. هنالك من يموت من أجل وجوده في الحياة، فيما يموت آخرون من أجل الموت نفسه. أقول هذه وانا اسمع لندب، يقوم به فنان عراقي، لا أحب صوته، يبث ندبا، -البعض يسميها أغنية- مع شريط صامت، لحادثة مروعة يظهر فيها حشد من شباب أنصاف عراة يقتلهم مجرمو داعش، في مشهد يدمي النفس عميقاً، لكنه يولد انكسارا وخذلاناً لم أقو معهما إلا أن أصرخ: يا اخي، ما هكذا يعبّر عن جرح عميق، أدمى قلوبنا. انت لا تحرك في مشاعري بطلاً. انت تكسر في روحي بندقية دفاعي.
منذ فاجعة جلجامش بصديقه أنكيدو إلى اليوم يتردد صدى نحيبنا وعويلنا في اودية السهل الرافديني، الذي ضمنا معا منذ عشرات الآلاف من السنين، لكن الحزن ذاك لم يمكننا من التصدي لما نحن فيه، ولم يزد تصدعنا إلا تصدّعاً. تدمر الحروب مدننا وتحرق القنابر حقولنا، ونشيّع اولادنا وأطفالنا إلى المقابر، ثم ما ننفك نزورهم بكاّئين نادبين دامعي الأعين، غير مفكرين في كيفية استرداد حياتهم التي أرادوها لنا، نحن لا نعلم لماذا يموت ابطالنا، كلنا يعتقد بانهم ما توا من اجل الموت نفسه. وهم مشاريع ازلية للموت، وليس للحياة طعم بين شفاههم. ولهذا لم نبن الحدائق في الامكنة التي سقطوا فيها، ولم نقم النصب والتماثيل العملاقة في اماكن وجودهم بيننا، وكانت طوائفنا ومذاهبنا ومشاربنا الشتّى تفتت قيمهم العليا بيننا. هل هنالك من يدلني على رمز وطني، نجتمع عليه جميعاً. ومما يؤسفنا أن الدين والرموز الدينية لم تكن ضامنة لوحدتنا، هنالك من ساهم في تبغيضها في نفوس أبناء بعضنا.
تدعوني اللقطات السريعة التي تتحدث عن عمل مسرحي يقوم به شباب عراقيون يتخذون من شارع الرشيد مكانا، يُجمعون فيه على أن الرقص مادة للحياة، ويقول أحدهم: "أرفض سلوك السياسيين والهراطقة منهم بخاصة وأعترض على أدائهم في تبئيس الحياة، اتقاطع تماما مع اتخاذهم البكاء والنجيب والندب، تصديا لداعش والوحشية عندهم" . كلام في صميم ما نعتقد ونذهب اليه، لا بل هم يفكرون بعرضه في مخيمات النازحين من مناطق الحرب مع داعش. أقول تدعوني هذه إلى القول: إنها فكرة رائعة، جريئة جداً، لِمَ لا نرقص، نحن العراقيين لماذا لا نرقص ولماذا لم تكن الموسيقى والفنون جميعاً مادتنا للحياة بعد أن جربنا مادة الندب، وها نحن نجد ان الارهاب يستثمر تراجعنا في الحياة ويوغل فينا خراباً، من خلال نشر مفاهيمه عن الموت. وقد عطلنا مشاريعنا في الحياة .
يقف عشرات الآلاف من المسيحيين ومعهم الالاف من أبناء الطوائف الأخرى، غير المستفيدة من النظام الجديد، صفوفاً على مكاتب الهجرة في دول العالم بانتظار لحظة الخلاص من الوطن، ذلك لأن مدنهم أصبحت طاردة لهم، بسبب من السياسات غير الحكيمة لقادتهم أو ومن خلال الحراك الاجتماعي المتخلف الذي طوّق القرى والحارات بفعل الأنساق العشائرية القبلية المتخلفة، وها نحن نشهد على سبيل المثال تواري المرأة من الحياة العراقية. وبسبب من تلكم السياسات باتت مدننا ضيقة على الجميع، وعلينا نحن أيضاً، ومن يتتبع قوائم المهاجرين العراقيين منذ السبعينات يجد ان غالبيتهم من النخب المثقفة. ترى هل بين سياسيينا من يقول لماذا يهاجر هؤلاء؟
ولكي نحصي المقاعد التي فقدها العراقي خلال العقود المنصرمة نجد انه فقد مقعده الذي كان في المقهى التي لم تعد مكاناً للحديث في الفكر والفن والادب مثلما فقد مقعده في البار والنادي الاجتماعي والمسرح والسينما والديسكو وفي قاعة العروض التشكيلية وامام النصب والتماثيل وعلى ضفة النهر وبين النخيل وعلى الابراج وبين أروقة المتحف وفي الكهف الأثري وفي غابة الحيوان وعند بائعة الورد وووو. لكن مقاعد البكاء والندب هي وحدها التي بقت.
الخلاص من الوطن
[post-views]
نشر في: 23 سبتمبر, 2014: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
ابو اثير
سيدي الكريم ... هناك مقولة مشهورة تقول أذا أردت معرفة رقي أي شعب تعرف على موسيقاه ... أين هي موسيقى شعب ما بين النهرين الذي يدعى العراق أين هي موسيقانا المفرحة التي تقودنا الى التفائل والسعادة فكل رموز موسيقانا حزينة وكئيبة مما يجعلنا حزينين وكئيبين في أط