TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > مونتاج شاعر

مونتاج شاعر

نشر في: 8 ديسمبر, 2009: 04:03 م

محمود عبد الوهاب1. فجأة قطع المدرّس مشيته وحدّق إلينا، نحن طلاب الصف الثاني المتوسط (ب). كل شيء داخل الصف كان هادئاً. كنّا نجلس في طقس دراسي وقور. أمامنا،على الرحلات، أقلام الرصاص المقطوطة والمماحي والمساطر. راحات أكفّنا تنام على سيقاننا، وأقدامنا مسترخية على الخشبة العريضة، في الأسفل، بين طرفي الرحلة. البرق يومض على نوافذ الصف الثلاث.
خطفَ البرق، كالنصل، جانباً من وجه مدرسنا، فكأنّه أيقظه من شروده. انتزع المدرس، بقصد مسبّق، دفتراً بغلاف صقيل من بين مجموعة دفاتر الإنشاء التي بين يديه، ونادى: محمود البريكان. 2. كلّما زرته، كان يحملني حبّ الاستطلاع على التسلل، بمحبة، إلى ذاته، أتحسس أقفالها وأبوابها الموصدة ودهاليزها، لعلني أنفذ إلى قيعانها، حيث يقبع هناك كنز حقيقته. أسأله، وكأني لا أملك غرضاً من السؤال، ويجيب عمّا أبتغيه بلغة تحفّ بالجواب، لكنها لا جواب، غير أننا، كلينا، مقتنعان، أنا بسؤالي المراوغ، وهو بجوابه المضلِّل!. لم أكن أبتغي نشر ما يقول، ولم يكن هو يرتاب في نواياي، وعلى علمه بحقيقة ذلك، ظلّ يحرص على إقفال سريرته، لا يفكّها في عبارة مباشرة أو قول صريح. 3. نهض من مقعده، في الزاوية اليسرى من الصف، مشى نحو المدرس إزاء السبورة، ناوله مدرسنا الدفتر وطلب منه أن يقرأ موضوع الإنشاء الذي كتبه. بدأ محمود يقرأ. فجأة أصبح الصف مكاناً آخر، ارتعشت في وجوهنا كلمات محمود وصوره وجمله، كأنها تتواثب تحت جلودنا. صوت جديد لا يأخذ قسماته من مسامات ألفاظه، بل " من خلال العظم الفقري للروح ". ووسط إشارات مدرّسنا واحتفائه بما كتبه محمود، تبادلنا النظرات، صالح وأنس وأنا، كنّا نتساءل: في أيّ مكانٍ كان يختبئ عنّا، نحن أعضاء اللجنة الثقافية في المدرسة، هذا الزميل ؟. 4. زرته مساء الجمعة، دائماً كنت أزوره في مثل ذلك المساء، من كلّ أسبوع. جلس متنحيّاً في طرف المقعد، يداه مسبلتان على فخذيه، متنحياً تماماً كما لو أنه هو الضيف. أتذكّر، كيف كان يكوّر أطراف دشداشته بين ساقيه كلّ لحظة، وكيف كانت ساقاه المتصلبتان تمتدان، وقدماه تتسللان إلى نعليه. 5. بعد أن قرأ محمود موضوعه وخرجنا، نحن الطلاب، إلى بهو المدرسة المعتم، دنوتُ منه. إبتسم أحدنا للآخر، ثم سرنا معاً صامتين، كما لو كنا نقطع نفقاً طويلاً. إجتزنا صفيحة النار التي اتّخذها الفرّاش مَوقداً، يتدفق لهيبها القرمزي خارج الصفيحة التي كانت نارها تأكل كلّ شيء. 6. قال: قرأتُ قصتك " طيور بنغالية ". حينما تزوره تتلبسك عاداته، تبدو حذراً مثله، متوجساً مثله. تنحّيتُ في المقعد، كما لو كنتُ أنا محمود البريكان. قال: إنك مختلف، تراقب لغتك ولا تأذن لها بأن تكون مسرفة. شكرته، أعرف أنا حرصه الشديد على لغته، وأعرف كيف كان يترصد الكلمات الفائضة، ويوجّه إليها ماسورة بندقيته، كلّما أطلّت برؤوسها في بساتين نصوصه. يا للقنّاص النبيل!. 7. صوت الشاعر ينتشر في فضاء: من الطارقُ المتخفّي؟. تُرى؟ شبحٌ عائدٌ من ظلام المقابرْ؟ ضحيةُ ماضٍ مضى وحياة خلت أتتْ تطلبُ الثأر؟ روحٌ على الأفق هائمةٌ أرهقتها جريمتُها أقبلتْ تنشد الصفحَ والمغفرهْ؟ رسولٌ من الغيب يحملُ لي دعوة غامضهْ ومهراً لأجل الرحيل؟ 8. ما أوسعَ الأحلام وأقصر العمر، إذ لم يتح لك أن تقول كل ما تملك وبما يكفي، ولم يتح لنا أن نقول فيك كل ما نريد، معذرةً، فلفرط ما تماهينا معاً، لا نعرف مَنْ منّا الذي ارتحل.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram