في السنوات الاخيرة من سبعينات القرن الماضي كانت"البحبوحة" الاقتصادية العراقية تتسع في بحيرات عسلها، والنفوس كانت تستكمل بناء فلل عزلتها كلما ازدادت نهما في مقاربتها الحياة، كأن السلطة انتهت من وضع معادلتها: دعهم لسعاداتهم ولتضيق المرافئ بالأعتدة والس
في السنوات الاخيرة من سبعينات القرن الماضي كانت"البحبوحة" الاقتصادية العراقية تتسع في بحيرات عسلها، والنفوس كانت تستكمل بناء فلل عزلتها كلما ازدادت نهما في مقاربتها الحياة، كأن السلطة انتهت من وضع معادلتها: دعهم لسعاداتهم ولتضيق المرافئ بالأعتدة والسجون بالأفكار.
تلك كانت لحظة التشييع الرسمي لجنازة المعنى، ونزول الستارة على "مسرحية" الانفتاح اليساري التي اضفت طابعا دراميا على صفقة مستحيلة بين فكر شيوعي استغرق في أحلامه كثيرا، وعقل بعثي تدميري يجيد المراوغة والتلفيق والحذلقة، وقبل ذلك يجيد بناء دهاليز الموت .
لم يعد النغم بالنسبة لي مجرد "مثاقفة"، ومع المسار"التراجيوميدي" ذهبت الى اختيار بهجة ما في الموسيقى الغربية المعاصرة تعويضا عن خسارة روحية وفكرية، فجاءت اسطوانة " ساتدرداي نايت فيفر " للفريق الغنائي بيجيز لتفتح في بغداد وعواصم كثيرة في العالم "العصر الذهبي" لإيقاع الديسكو.
اليوم أستعيد 35 عاما، لا من تعرفي الشخصي على تلك الاسطوانة التي هزت العالم ( بيعت 25 مليون نسخة في نحو عامين)، بل من حكاية اخرى للخوف من الانتقام البعثي عبر نافذة موسيقية، عناها عملي بائعا للأشرطة في " تسجيلات صوت الفن" في الباب الشرقي ببغداد، وكيف صارت وسيلة للتخفي من عيون العسس التي كانت تلاحقني وغيري من "المشبوهين"، حين كنت أمضي الى آخر امتحانات الكلية، مذعورا كأنّ على رأسي الطير، حيث سيارة " شرطة الأمن" المعروفة لعيون كثير من العراقيين في سبعينات القرن الماضي: (فولكسفاغن بيضاء)، عند الباب الرئيس المؤدي الى عمادة الكلية ، فأغيّر طريقي كي أدخل من الباب البعيد المؤدي الى "قسم التشريح "، ولحسن حظي ان الأستاذ المشرف على قاعة الامتحان، كان أشبه بصديق قبل أن يكون أستاذا ولطالما جمعتني به أحاديث عن الأدب، كما انه نجل الروائي العراقي المعروف مهدي عيس الصقر، وحين قابلني عند باب القاعة، اشار الى انه يفضل دخولي من الباب الخلفي للقاعة، دون ان ينسى القول: "أجب على الأسئلة بأقصى سرعة واترك القاعة مثلما دخلتها، من الباب الخلفي ".
كنت أول الخارجين من القاعة، وكان الطريق طويلا من " قسم الجراحة " الى أول حي سكني ملاصق لسياج الكلية الذي قفزته، ومن هناك الى محال " صوت الفن " الذي وجدت فيه ملاذا يبعد عني الشبهات، وحوّلت الغرفة الملحقة به الى مايشبه المستقر، خوفا من الذهاب الى المنزل الذي طرق أبوابه رجال شرطة وحزبيون. وجدت في تسجيل الأغنيات وبيعها فرصة كي أجمع مالا يمكنني من السفر، كنت منتشيا وأنا أضع اسطوانة " ساتدرداي نايت فيفر " في جهاز الغرامفون الضخم، لتنبعث ألحان صاغها ثلاثي " بيجيز" لفيلم ترافولتا الشهير. أختار من الشريط أغنية " مور ذان اوومان" الراقصة حين يكون الراغب في اقتناء الشريط رجلا، والأغنية الهادئة " هاو ديب إز يور لوف" حين يكون فتاة جميلة. الثوابت الجمالية التي كانت تحدد معرفتي بالموسيقى، " تهرأت" شيئا فشيئا، فمع الطيف الهائل لأذواق الآخرين، ومع اكتشافي نظرتهم اللامبالية بملامح الكارثة وهي تطل على المدينة من كل صوب، ومع تبدلات في مشاعري التي اقتربت من الغضب، تعرفت الى رجال ونساء، من بين الرجال فاجأني ذات يوم بصوته الهادئ ونظرته القلقة من خلف زجاج نظارته، رجل قال انه المترجم الخاص لوزير الثقافة والإعلام ( بناية الوزارة فوق محلنا الموسيقي)، وانه يبحث عن الغريب والجديد في عالم النغم، سألني عن شريط في هذا الاتجاه، فقلت أنا شخصيا أستمع الى شريط مأخوذ عن اسطوانة مزدوجة بعنوان " جلجامش" من تأليف وغناء السوري المقيم في فرنسا عابد عازريه، فاقتناه، وعاد بعد أيام ليحدثني عن كنز من الأنغام في أشرطة من الموسيقى التركية، حاملا لي بعضها، غير انني لم أحتمل الإيقاع الهادئ حد الخفوت فيها، واعدتها له بعد أيام مع إطراء كاذب. انه مازن الزهاوي الذي ربحت منه شريطا نادرا تضمن حفلة غنائية خاصة للمطرب العراقي الراحل ناظم الغزالي في احدى البيوت البغدادية الراقية، التقيته في " نادي العلوية " بعد ثلاث سنوات من آخر لقاء بيننا في " صوت الفن " ولكنه كان على غير ملامحه الهادئة، فهو قد أصبح " المترجم الخاص للرئيس" وفي نطاق بزته العسكرية مسدس ضخم، وفي يده اليمنى مفاتيح سيارته الفخمة، وفي اليسرى جهاز اتصال لاسلكي. الزهاوي ذاته وجد ميتا في شقته ببغداد العام 1994 !
ومن البغداديات الرائعات روحيا واللائي عرفتهن، صيدلانية بالقرب من محلنا تهوى الغناء العراقي " المجروح" كما كانت تقول، تقتني من ياس خضر " البنفسج " و " روحي "، مثلما تختار من فؤاد سالم " ردتك تمر طيف" ومن قحطان العطار " يكولون غني بفرح " ومن سعدون جابر " الكنطرة بعيدة " و من الملحن كوكب حمزة " صار العمر محطات "، غير ان هذه السيدة الأنيقة، لم تخف ذات يوم سعادتها اننا اشتركنا في الحماسة لأغنية الأميركية السمراء غلوريا غينور " آي ول سرفايف ".
هي ذاتها كانت تحدثني بلهفة، كيف انها كانت محظوظة حين استمعت الى اليوناني ديمس روسوس في بغداد، وكيف بكت مع اغنيته " ذا غريك سايد اوف ماي مايند" ، وكيف انها عاشت مع عائلتها " ليلة من العمر " حين حضرت حفلا غنائيا احيته فيروز، وتضمن أغنية لم تزل حتى اليوم، أجمل أغنية في وصف بغداد ومحبتها " بغداد والشعراء والصور " .
تلك الفسحة الجميلة التي اسمها " محلات صوت الفن " أغلقت، مثلما كان يتوالى هدم ملامح الجمال في بغداد، فذات ليلة جاءني صاحب المحل (ابو حكيم) ليقول دون مقدمات: "آسف ان يكون هذا آخر يوم لك هنا، انا بعت المكان، وسأسافر الى لندن وقد لا أعود" !
عدت خائبا الى بيت صديق محملا بنسخ أصلية من أشرطة واسطوانات مقابل راتبي الأخير، شربنا كأس خسارة جديدة، فيما كنا نمزق معنا أوراق ونشرات وصحف مجلات شيوعية، مستعيدين أسلوبا لطالما عرفته بيوت عراقية كثيرة مع كل موجة قمع، تعيشها البلاد.