سمعت متأخراً برحيل الفنان التشكيلي الكبيرعبد الجبار اليحيا الذي غادرنا يوم 18 تموز الماضي في مستشفى بالرياض. لعل الاسم غير معروف في العراق، وطنه الأول، حيث ولد وشب ونهل من ثقافته وتطبع بطباع أهله وطيبتهم، حيث خطا خطواته الاولى في عالم الفن والأ
سمعت متأخراً برحيل الفنان التشكيلي الكبيرعبد الجبار اليحيا الذي غادرنا يوم 18 تموز الماضي في مستشفى بالرياض. لعل الاسم غير معروف في العراق، وطنه الأول، حيث ولد وشب ونهل من ثقافته وتطبع بطباع أهله وطيبتهم، حيث خطا خطواته الاولى في عالم الفن والأدب وكذلك السياسة، ليحمل العراق معه حيثما حل وارتحل. ورحلته كانت طويلة، مليئة بالاستكشاف والمعرفة، تزخر بالطيبة والانفتاح على كل ما هو إنساني وجميل.
بنى اليحيا نفسه بنفسه، بجهده ومثابرته الشخصية، وأخال أن نشأته في الزبير وثم في البصرة هي الحاسمة في توجيه مسار حياته. فاللون والخطوط هي التي امتلكته، يقول: "بنيت الجدران في الزبير من الطين، والطين ليس اللبن، إذ يعمد البناؤون إلى حفر حفرة يملأونها بالماء ويدوفون الطين بأرجلهم لحين تكون طيناً لزجاً، فالطين في الزبير لزج القوام. بعدئذ يقوم البناؤون ببناء الجدار على شكل طبقات، ارتفاع الطبقة منها قدم وسمكها قدمان، ويتركونها ليومٍ تالٍ حتى تجف وتتماسك. ويبنون فوق الأولى طبقة ثانية وهكذا، لحينما يصل ارتفاع الحائط إلى 12-15 قدما. وحائط الطين فجٌ، بدائيٌ، غير مهندم، تصنعه اليد دون أدوات. وهو قطعة فنية فطرية مليئة بالألوان والتفاصيل، فالجدار يتلون بألوان عجيبة غريبة، تتغير تبعاً للفصل والوقت. في الشتاء يتشرب بماء المطر، فيأخذ لوناً خاصاً، وفي الصيف تحرقه الشمس وتشويه فيأخذ لوناً آخر. أما الظلال، فهي عالمٌ آخر من عوالم الجدران: عندما تسقط أشعة الشمس على الجدار، تبرز تفاصيل يدي البنّاء (الأسطة) الذي بناه، ولكل بنّاء تكنيكه الخاص فلا يشبه الجدار الذي يصنعه جدار بنّاء آخر. إنه توقيع الفنان على اللوحة، يميزه كما تتميز ضربات فرشاة فنان عن آخر. كنت طفلاً، عندما أجلس في الظل لتناول الفطور في بيوتنا الكبيرة تكون الشمس تنير الجدار المقابل فترى كل هذه الألوان والظلال العجيبة".
ثم تأتي كنوز ابن خالته ناصر سعد الخرجي، وكتبه التي نقلته بالكلمة والصورة إلى عالم روفائيلو ومايكل آنجلو والبريشت دورر حتى وصل عالم فان غوخ الملون. ويصف اليحيا ابن خالته الخرجي بدافنشي العراق، إذ كان يصنع ألوانه بيده مستعملاً ما تجود به البساتين حوله، وصنع كذلك عدداً من الآلات مثل ماكنة لتنظيف الأنهار من الأشنات، وهي عبارة عن اسطوانة تقوم بتقطيع الأشنات وهي في النهر ليقوم المد والجزر لاحقاً بحمل الاشنات المقطوعة إلى الخليج. كما اخترع آلة يدوية لإزالة النوى من التمر بهدف حشوه بالجوز أو اللوز. كان ناصر نحاتاً ورساماً، وقد صنع من الخشب كماناً، اشتراه أحد أفراد عائلة الخضيري الغنية في بغداد عام 1946 بمئة وخمسين ديناراً، وهو مبلغ ضخم في ذلك الوقت. في الحرب الثانية صادف اليحيا عدداً من الفنانين الالمان والطليان من أسرى الانكليز في معسكر الشعيبة في البصرة، كانوا يفدون لرسم الزبير ومآذنها، فتعلم اليحيا منهم الكثير وتعرف عبرهم على عالم الأكواريل.
يقول وفي كلماته حزن: "كآبة في النفس وغصة في القلب أن أبتعد ولو قليلاً عن الرسم بقدومي إلى الوطن – المملكة العربية السعودية – وعدم وجود إمكانية دراسة الرسم أكاديمياً، بل الدراسة والعمل "فني الكترونيات" في سلاح الطيران.." هذا بعد اضطراره ترك العراق في 1949 إلى البحرين أولا، ثم السعودية لأسباب سياسية، فقد اشترك في عمل سياسي ما كان ليلقى التعاطف من حكومة جلالة الملك، رغم الهالة الرومانسية التي يريد الكثير من العراقيين اليوم أن يراها تحيط بالمملكة العراقية، فالحكم الملكي لم يكن أنقى وأصلح من كل الذين أتوا بعده. من السعودية ذهب إلى الولايات المتحدة سنة 1952 للدراسة في بعثة، حيث استعاد شيئاً من عافيته الفنية ليشارك في معرض جماعي، قبل أن يعود إلى جدة للعمل. عاد عبد الجبار اليحيا إلى العراق بعد تموز 1958، لكن اضطر لترك وطن مولده ثانية بعد انقلاب 1963 وعاد إلى السعودية. نشط مجدداً في الابداع التشكيلي في منتصف الستينات واشترك في معرض فني في السعودية، مع المدرسين العراقيين الذين أسهموا في بناء النظام التعليمي في السعودية بعلمهم وخبرتهم واخلاصهم.
شكل انتقاله إلى الرياض في 1969 نقطة تحول جديدة، فقد تسنت له مزاولة العمل الفني وإقامة المعارض لأعماله، واشترك بنشاط في الكتابة والنقد الفني والترجمة. فبدأت سمعته كفنان سعودي رائد في البروز وشارك في معارض عالمية كذلك. اقتنى بيتا في بغداد بعد انتهاء حرب ايران وأثثه ونقل لوحاته اليه ليعود إلى وطنه للمرة الثانية، أملاً في قضاء شيخوخته مع من تبقى فيها من أصدقائه هناك، ألا أن حرب الكويت وما تلاها منعاه من تحقيق حلمه. أقام في المجر لفترة في التسعينات ثم في بداية الألفين، فقد انتقلت العائلة اليها ليدرس أولاده في جامعاتها. استغل هذه الفرصة ليواصل نشاطه الفني وينغمس في البيئة الجديدة. يقول: "وكانت المجر محطة قصيرة ملأى باللون والطبيعة البكر، وحلماً زاهي الألوان تستيقظ فيه. ولم تزل رائحة الربيع متناثرة في الجو. في هذه اللحظة، عبق رائحة الألوان الزيتية ينتشر في جميع أركان البيت وتتراقص الخطوط والألوان على الجدران مع أحلام يقظة لرجل عجوز". هناك تعرفت على هذا الرجل العجوز الذي لم يفارقه حلم الشباب ونشاطه وصفاء ذهنه وحبه لوطنه الأم العراق، حيث قضيت معه ومع بعض الأصدقاء أجمل الأماسي في حوارات طويلة وعميقة عن الفن والأدب والسياسة، وتعلمت منه الكثير. أنجز خلال تلك الفترة – إلى جانب عدد من اللوحات الرائعة – ترجمة كتاب هانز شوارتز "اللون وتقنياته للفنان التشكيلي" الذي صدر في الرياض سنة 2003، وهو كتاب نظري وعلمي مهم يتناول كل ما يتعلق باللون والأصباغ التي يستعملها الفنان التشكيلي.
لم يفقد الفقيد أمله في العودة إلى وطنه الأم رغم كل ما مر بالعراق، فقد كتب عند إهدائه لي كتابه "عبد الجبار اليحيا ... خمسون عاماً من الرسم" الصادر في 1999:
مهما تباعدت المسافات، سنلتقي.
والذكريات ماثلة، هنا، أو في الحلم الذي نرتجيه أو هناك في بلد المستحيلات في مقهى "الطرف"