بعيداً عن أي منطق وأي أسلوب للتعامل السياسي، جاء احتجاج الولايات المتحدة على الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الأمم المتحدة، وطالب فيه بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي واستقلال دولة فلسطين، وكأنّ الرجل قدم طلبات تعجيزية، أو خارج مفاهيم القانون الدولي، مع أن كل ما تطرق إليه، وهو داعية سلام يؤمن بأن حل المعضلة الفلسطينية الأمثل، يتم عبر المفاوضات، هو أن محادثات السلام مع إسرائيل لا قيمة لها، ما لم يكن الهدف هو إنهاء الاحتلال في إطار جدول زمني صارم، ويبدو أن واشنطن تستمد قناعاتها في هذا الموضوع من مماطلة تل أبيب، وتحويلها العملية التفاوضية إلى عبث يتم خلاله ابتلاع المزيد من الارض بالمستوطنات، وتُشن الحرب بين الفينة والأخرى تحت مختلف الذرائع، بينما هي تحتجز خيرة شباب فلسطين في معتقلاتها إدارياً ودون محاكمة أو إدانة.
خارجية الوسيط غير النزيه جون كيري، اعتبرت أن خطاب عباس الاستفزازي احتوى توصيفات مُهينة، هي في العمق مخيبة للآمال ومرفوضة، واعتبرت الناطقة باسم الخارجية الأميركية تصريحات عباس غير بناءة، وأنها قد تجهض جهود إعادة بناء الثقة بين الأطراف المعنية، لمجرد إعلانه أنه يسعى لمعاقبة إسرائيل على جرائمها في قطاع غزة، وهي في تصريحاتها هذه نسجت على نفس منوال حكومة نتنياهو، التي اعتبرت الخطاب تحريضياً وكاذباً، وأن هذا ليس أسلوب حديث من يبحث حقاً عن السلام، وأن أقوال عباس في الجمعية العامة، توضح مرة أخرى، أنه لا يريد ولا يستطيع أن يكون شريكا لاتفاق سياسي منطقي، واتهم البيان الصادر عن مكتب نتنياهو عباس بنشر الأكاذيب حول إسرائيل.
مهندس اتفاقية أوسلو المتهم بالكذب، تجرّأ وقال أمام المنظمة الدولية، إنه آن لهذا الاحتلال الاستيطاني أن ينتهي الآن، وكشف عن قيام فلسطين والمجموعة العربية باتصالات مكثفة مع مختلف المجموعات الإقليمية في الأمم المتحدة، من أجل الإعداد لتقديم مشروع قرار لاعتماده في مجلس الأمن الدولي، حول النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، وللدفع بجهود تحقيق السلام، وشدد على استحالة العودة إلى دوامة مفاوضات تعجز عن التعامل مع جوهر القضية، وأنه لا صدقية ولا جدوى لمفاوضات تفرض إسرائيل نتائجها المسبقة بالاستيطان وببطش الاحتلال ولا معنى ولا فائدة تُرتجى من مفاوضات لا يكون هدفها المتفق عليه، إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وقيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس، على كامل الأراضي الفلسطينية التي تم احتلالها عام 67.
واقع الأمر أن ما ازعج واشنطن وقبلها تل أبيب، ليس فقط نص الخطاب، بل مشروع القرار المتفق عليه عربياً، ويحظى بتأييد العديد من الدول الفاعلة، وينص على تحديد سقف زمني لإنهاء الاحتلال، فالمطلوب إسرائيلياً بالتأكيد وأميركياً كما يبدو هو تكريس الاحتلال، والمماطلة مع الفلسطينيين علهم يفقدون الأمل، والمطلوب من عباس أن يكون صهيونياً أكثر من هيرتزل، وأن يُسلّم أمر شعبه لإرادة نتنياهو ويتنكر لدماء الشهداء، ويعتبر نفسه موظفاً عند الاحتلال، وهو ما لن يكون، فهل تُدرك واشنطن الخاضعة لمشيئة نتنياهو عُقم مراهنتها، وأنها بتنكرها لعباس ومشروعه السلمي، تقود المنطقة إلى ما هو أخطر وأبشع من داعش وأخواتها.