يتساءل أهل الرأي والمعرفة — منذ اقدم العصور —:لماذا الحواس الخمس ( دعكم من الحاسة السادسة) ظاهرة معظمها للعيان ، إلا آلة التذوق والنطق (اللسان) ؟ فهو مخبوء في حرز حريز ، محبوس داخل حيز ضيق مظلم : اللهات سقفه واللهات قاعه ، الآسنان قضبانه ، الشفتان المزمومتان قفله وفيلق حراسته ، يعصمانه من الخطل قبل ان يتململ ، ويقيانه من الخطأ قبل ان ينبس ببنت شفة !
يبرر اهل الحكمة وجود اذنين اثنتين ولسان واحد ، لبدهية فسلجية ( بمفهوم اهل العلم ) ويعزوها ( رجال الدين ) لحكمة ربانية مقدسة مفادها ان نسمع ضعف ما نتكلم !
ليس السمع المجرد هو ما يدعو إليه العارفة ، إنما الإصغاء المستنير الواعي ، مطلب الاستماع وغايته . سيما للقابضين على صولجان الحكم ، المتربعين على كرسي السلطة .
الطبيب يصغي لنبض الوريد لتشخيص العلة ، والمهندس لهدير الآلة . والفلاح لشدو النواعير . والمعلم لحشرجة الطباشير علي السبورة . و… و.. والسياسي ؟ لمن ينبغي ان يصيخ السمع ؟ لصوت ضميره شرط ان يكون حيا وذا عنفوان .. ؟ هل يكفيه صوت ضميره اليقظ ؟ لا .. في خضم الواقع الراهن الملتبس ، لا بد للحاكم أكثر من راس لتبادل الرأي ، أكثر من عينين للرؤية ، أكثر من ساعد للعمل .
من هنا تجيئ حاجة الحاكم القصوى للمستشارين الأكفاء ، غيورين وآهل عفة ونزاهة ، بشرط وجوب وفرض ، الا يضعفوا أمام المغانم والمكاسب والمغريات ، الا يضللوا الحاكم او يبتغون مجرد رضاه ، شرط آن تعطى لأصواتهم حرية ان يقولوا لا ( بقناعة ) وآن ينطقوا بنعم بملء الإرادة .
الدروس المستنبطة من حقبة حكم المالكي أكثر من آن تحصى .والكتاب كثر ، والمتكلمون كثر ، والأدعياء كثر ، لكن القلة القليلة من يتاح لهم الإصغاء لنداء هامس وجهوري معا : لا تبيعوا الوطن بمغنم ، فالثمن مهما تضاعف لا يعدو ان يكون - بالتالي - غير مترين قماش وحفنة تراب.