بعد أربعة عقود من حكم الدكتاتور العقيد القذافي، دخلت ليبيا نفقاً معتماً، وانقلب المشهد نتيجة عجز الدولة، وتغول المليشيات عليها، ومصادرة دورها، ورغم ما يقال عن عملية سياسية متصاعدة وإن ببطء، فإن القائد العسكري المتقاعد خليفه حفتر، أعاد نفسه إلى الخدمة ليشن حرباً ضد الإرهاب، وهو بذلك خلط الأوراق بين الثورة والثورة المضادة، فباتت البلاد مقسومة بين برلمانين وحكومتين تدعي كل منهما الشرعية، وباستثناء مصر التي دعمت حكومة طبرق، فإن دول الجوار وقفت تراقب بحذر، دون أي رغبة بالتدخل في بلد تتنازع حكمه الميليشيات المسلحة، التي عجزت السلطات الجديدة عن حلها أو دمجها في مؤسسات الدولة, فتغولت حتى باتت أكثر قوة من الجيش الوطني، أو حتى بديلاً له في تنفيذ المهمات الأمنية التي تحتاجها الحكومة, وفي مقدمتها تأمين الحماية لمنشآت الدولة نفسها.
أدى ذلك للاعتماد على سطوة الميليشيات, لفرض مطالب جهوية أو سياسية، فاقتحمت عدة ميليشيات مقر البرلمان لفرض ما تشاء على تشريعاته، ونجحت بإقرار قانون العزل السياسي، وهو أهم القوانين التي صيغت بعد سقوط القذافي، وقتلت المتظاهرين السلميين المطالبين بحلها، ولجأت إلى عمليات ابتزاز باختطافها دبلوماسيين من الأردن وتونس ومصر، ومع دخول اللواء حفتر إلى المشهد، بات اللجوء إلى الميليشيات لحسم الخلاف على هوية السلطة والحكومة خياراً للجميع، وأدى الاقتتال بينها في طرابلس وبنغازي صيف هذا العام إلى تهجير 250 ألفا، وإخلاء سفارات أجنبية كثيرة، وتعطيل المطارات الدولية، ما أنبأ باندلاع حرب أهلية، لن يكون مجدياً معها اعتماد السلطات الانتقالية الضعيفة على المليشيات، لتعزيز شرعيتها ووقف العنف المتنامي، فنشأت قوتان أولاهما "درع ليبيا"، التابعة لوزارة الدفاع، و"اللجنة الأمنية العليا"، بإشراف وزارة الداخلية.
المعضلة اليوم أن المليشيات أقوى من أجهزة الدولة، وهي تشكل أذرعاً مسلحة لفئات قبلية أو جهوية أو سياسية مؤثرة، وهي اليوم تندرج تحت شعاري فجر ليبيا وكرامتها، مع أنهما بصراعهما يؤخران بزوغ الفجر، ويمتهنان كرامة ليبيا والليبيين أكثر من كل ما ارتكب القذافي من موبقات، وبين هذا وذاك، إضافة للولاءات المتعددة للنواب الفائزين على القوائم الفردية، ضاع التيار الليبرالي الذي كان فاز بأكثر مقاعد أول برلمان منتخب، وتمكن دعاة الفدرالية وقبائل التبو من فرض رؤيتهم غير المتناسبة مع حجم تمثيلهم في البرلمان، وكانت الفرصة مواتية لجماعة الإخوان المسلمين لتشكيل حزب العدالة والبناء، الذي حصل في أول انتخابات ديمقراطية على 17 مقعداً من أصل ثمانين مخصصة للقوائم الحزبية، وفي انتخابات هذا العام ارتفع رصيده إلى 23 مقعداً، ولم يقتصر نشاط الإسلام السياسي عليهم، فقد برز حزب الوطن كممثل للسلفيين الجهاديين، غير أن تأثير كل هؤلاء ظل محدوداً، بسبب النواب المنتخبين على القوائم الفردية.
لا يترك المحسوبون على نظام العقيد الفرصة تفلت من يديهم، وقد أدت الحالة الراهنة للاستعانة بواحد منهم ليرأس "برلمان طبرق"، متمتعاً بدعم حفتر الذي تتراجع قواته امام أنصار الشريعة، الذين يصفهم هذا البرلمان بالإرهاب والخروج على القانون وتلقي الدعم من السودان، وهكذا فإن الصراع على السلطة ومغانمها، "حسب المفهوم العربي"، يضيع على الليبيين فرصة بناء دولة عصرية تسودها الديمقراطية والعدالة والحقوق المتساوية لمواطنيها، وليس غريباً أن نجد بينهم اليوم من يشعر بالحنين لفترة حكم ملك ملوك إفريقيا، رغم ما كان فيها من خطايا، فهي بالتأكيد أفضل من العيش في دولة فاشلة تتنازعها الميليشيات.
ليبيا.. فشل وميليشيات
[post-views]
نشر في: 11 أكتوبر, 2014: 09:01 م