1-2
ولد الياس كانيتي عام 1905 لعائلة يهودية من اصل سفاردي، كان عليها مغادرة اسبانيا في القرن الخامس عشر مع طرد العرب المسلمين من هناك ومثل الكثير من عائلات اليهود السفارديم، لجأت عائلة كانيتي إلى أراضي الدولة العثمانية، واستقر بها المقام في مدينة "روتشيك"، في بلغاريا. في تلك المدينة التي تُعتبر حتى اليوم، مصهراً لثقافات عدة، والتي كانت آنذاك ضمن إدارة الإمبراطورية العثمانية وُلد كانيتي. هكذا حمل كانيتي في البداية جواز سفر تركياً. وليس من الغريب أن يكتب كانيتي ذات يوم معرفاً بنفسه: "ألماني أنا بغطرستي، يهودي بلجاجتي، اسباني بكبريائي، وتركي بكسلي". ولكن مع ذلك، يمكننا أن نقول، إن كل تلك الثقافات التي عددها كانيتي هنا، تركت عليه ظلالاً صغيرة، مقارنة بما دمغته به سنوات الطفولة. كانت طفولة كانيتي مسبوكة من خليط لغوي بابلي هو مزيج من البلغارية، التركية، الاسبيونيلية (خليط من الإسبانية والسفارديمية)، اليونانية والألبانية. أما اللغتان الإنكليزية والفرنسية فتعلمهما لاحقاً، وهذا يصح أيضاً على اللغة التي سيكتب ها لاحقاً: اللغة الألمانية. الطريف، هو أن اللغة الألمانية، كانت اللغة التي اعتاد التحدث بها والداه، كلما أرادا الحديث عن موضوع، لم يريدا للأبناء أن يعرفوا به. لغة سرية في شكل ما. وربما لهذا السبب، سحرت هذه اللغة الطفل الصغير، كانيتي، وزادت فضوله وإصراره على تعلمها وبسرعة.
الموت المبكر للأب (بعد انتقال العائلة إلى لندن) دفع العائلة الصغيرة، الى أن تتنقل بين بلدان أوروبية عدة: من بريطانيا، إلى النمسا، إلى سويسرا ثم إلى ألمانيا. تلك كانت محطات كانيتي الشاب. وفي وقت قصير قبل الحرب العالمية الثانية، بعد تسلّم النازيين السلطة، وضم النمسا إلى دولة الرايخ (ضم الفرع للأصل، كما صرح هتلر!!)، نجح كانيتي في الهجرة إلى لندن. حصل كانيتي على الجنسية البريطانية، وعاش هناك سنوات طوال، قبل أن ينتقل لاحقاً إلى سويسرا، فتكون زيوريخ محطته الأخيرة، التي مات فيها عام 1994.
كاتب من الصعب إلحاقه بقومية، مفكر بلا وطن، يهودي بلا يهودية، هذا الشخص الهارب دوماً من القوالب والتعريفات، غير القابل للتصنيف في خانة معينة، حتى من الناحية السياسية. كل ذلك جعل كانيتي يصبح غامضاً للبعض، ومغرياً للبعض للآخر. وسواء تعلق الأمر بشخصيته أو بمشروعه الكتابي، فقد ظل كانيتي مشروعاً غير مكتمل. كان يخطط لكتابة ثمانية مجلدات بعنوان "الكوميديا الإنسانية للمجانين"، لكنه لم يكتب أكثر من جزء واحد من هذا المشروع: "الانخطاف"، روايته الوحيدة، وهي بمثابة عمل جبار، كتبه وكان له 25 عاماً من العمر، وهو العمل الذي جعل عملاقين، مثل هيرمان هيسه وتوماس مان، يكتبان عنه بحماسة، عند صدوره عام 1935. وهذا العمل بالذات، جعل كانيتي كل هذه السنوات، يظل شفرة سرية أو "كاتباً مخفياً لم يُكتشف بعد" في الأدب المكتوب باللغة الألمانية.
الشخصية الرئيسة في الرواية، بروفسور يدرس اللغة الصينية "كين"، تلك الشخصية التي يمكن أن تكون خطتها ريشة بلزاك، مع الفرق، أن المجتمع البورجوازي في زمن كانيتي، لم يبق كما كان في زمن بلزاك: عالم يعيش الانهيار. في هذا المجتمع يدور البروفسور، ضالاً طريقه: رأس يدور في الفراغ، العالم المحيط به غير موجود، عالم غير مناسب للرأس المتضلع في كل شيء: رأس بلا عالم، ينتهي إلى لهيب نيران مكتبته الضخمة. رأس سجين في عالم مادي منهار، العالم الوحيد المعروف، الذي يسكن في الرأس، هو الجنون.
ولكن مهما اختلف المرء في تقويم كانيتي، فإن كانيتي ذاته ظل أميناً على تحولاته. وكان يعتبر ذلك واجباً ضرورياً ملحاً له ككاتب، وبخاصة في توجهه الى المسرح، ليكتب في هذا المجال أعمالاً درامية مهمة:"العرس" و"كوميديا الغرور"، و"المحددو الأجل". سنوات طويلة حتى العام 1960 عمل كانيتي على مشروعه الضخم. كتابه النظري الرئيس "الجماهير والسلطة" أو "الحشود والسلطة"، يتأمل انعكاس الحشود والتجمعات على حياة قرن تراجيدي لم يبخل بالجماهير؛ عمل امتزجت فيه النظرة الأنثروبولوجية مع الفلسفة والأدب، بعد هذا العمل نُشرت كتاباته اللاحقة، التي ظهرت على شكل تخطيطات "بشرية"، اعترافات ويوميات ومذكرات، والأجزاء الأربعة من سيرته الذاتية. "العالم منهار، وعندما تكون لدى المرء الشجاعة على تصوير انهياره، يكون من الممكن، إعطاء تصور حقيقي عنه". هذه هي واحدة من جمل كثيرة كتبها كانيتي، ولا تزال قيمتها قائمة حتى اليوم، خاصة لمن يزور قبره اليوم ويسمع ما يدور حوله وعلى مدار الساعة من كوارث طبيعية وحروب.
عشرون عاماً على موته في زيارة قبر كانيتي
[post-views]
نشر في: 14 أكتوبر, 2014: 09:01 م