TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > وصية غركان

وصية غركان

نشر في: 14 أكتوبر, 2014: 09:01 م

حجاج العراق قبل دخول وسائل النقل اعتادوا على كتابة وصاياهم وإيداعها لدى كبير الأسرة او من هو بمقامه من الأقارب والمعارف ، فالتوجه الى الديار المقدسة قبل اكثر من مئة سنة لم يكن عن طريق الحافلات والطائرات ، وانما عبر سلوك الطريق البري بواسطة قوافل الابل ، يقودها أشخاص يمتلكون خبرة بطرق الصحراء ، والرحلة تستغرق عدة اشهر ، تتخللها مخاطر التعرض لهجمات قطاع الطرق ، وربما الموت عطشا ونفاد المؤونة ، حين يقع قائد القافلة في خطأ فيسلك طريقا اخر يؤدي الى مصير مجهول ، وحوادث من هذا النوع تداولها الجيل السابق ، فقدوا الأجداد والآباء ، ولم يجدوا اثرا لهم ، وعندما ينقطع الأمل نهائيا بإمكانية عودة الحجاج المفقودين مع قائد قافلتهم الى ديارهم ، ينصب اهتمام الابناء على معرفة تفاصيل الوصايا ، لتنفيذ فقراتها وهي بمجملها لا تتعدى موافقة الأسرة على زواج بنت الحجي المفقود من ابن فلان ، والحرص على جمع شمل الاسرة في كل الاحوال والظروف، والابتعاد عن المنازعات ،وتقاسم التركة طبقا لما ورد في كتاب الله.
من المألوف في ذلك الوقت ان يتوقع الراغب في أداء فريضة الحج الموت في الطريق ، وما يشجعه على خوض المغامرة، انه بحسابات بعض رجال الدين يعد حاجا ، ويستحق ابناؤه حمل لقب ابناء الحجي بعد موته ، ونيل شرف اللقب يحتم عليهم تنفيذ الوصية بكل فقراتها لينالوا احترام وتقدير الاخرين ، على قاعدة المرحوم لم يمت، لأنه خلف أبناء بررة رفعوا رأسه بعد مماته.
غركان بن زاير مدلول اصطحب زوجته الأولى معه في رحلته لأداء فريضة الحج ،وكغيره املى وصيته على جاره سوادي ليكتبها بخطه ، لأنه الوحيد في" السلف" يجيد القراءة والكتابة ، فمنحه هذا الامتياز النادر و الفريد من نوعه في ذلك الوقت ، التعرف على أسرار طالبي خدماته بكتابة الوصية ، وعندما شاءت الأقدار ان يكون ابن مدلول وزوجته الاولى في عداد المفقودين ، وبعد طول انتظار وانقطاع الأمل نهائيا بعودته ، حان الوقت المناسب للتعرف على الوصية ، فحصلت مفاجأة لم تكن متوقعة ،حين عرف الابناء بان اباهم اوصى بان تكون أبقاره وأغنامه وبقية ممتلكاته المنقولة من حصة الزوجة الثانية "شذرة " فاندلع الخلاف وبرزت شكوك بان سوادي حرف الوصية ، ليحقق رغبته في الزواج من أرملة المرحوم ، وحسمت القضية بتدخل عائلتها ، واعادتها الى بيت ابيها مع رضيعها ، مكتفية بحصتها من الميراث ،واغلق الملف ، بتحريم الاستعانة بخدمات سوادي في كتابة وصايا الحجاج .
نموذج سوادي حاضر في الساحة العراقية ، وتجسد بأشخاص تصدروا المشهد السياسي لاعتقادهم بانهم يمتلكون الحكمة والرأي السديد في حل الأزمات ، ونفوذهم الرسمي السابق يمنحهم الحق في ان يكونوا أوصياء على العباد والبلاد ، وأصحاب قرارات مصيرية ، في فك شفرة وصية غركان وبعث رسالة من تحت الماء بصوت الراحل العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: في محبة فيروز

العمود الثامن: ليس حكماً .. بل مسرحية كوميدية

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

العمود الثامن: ليس حكماً .. بل مسرحية كوميدية

 علي حسين قالوا في تسويغ الافراج عن بطل " سرقة القرن " نور زهير ، ان الرجل صحى ضميره وسيعيد الاموال التي سرقها في وضح النهار ، واخبرنا القاضي الذي اصدر قرارا بالافراج...
علي حسين

العراق بانتظار العدوان الإسرائيلي: الدروس والعبر

د. فالح الحمــراني إن قضية أمن البلاد ليست ذات أفق عسكري وحسب، وإنما لها مكون سياسي يقوم على تمتين الوحدة الوطنية والسير بالعملية السياسية على أسس صحيحة،يفتقدها العراق اليوم. وفي هذا السياق يضع تلويح...
د. فالح الحمراني

هل هي شبكات رسمية متشابكة أم منظمات خفية فوق الوطنية؟

محمد علي الحيدري يُشير مفهوم "الدولة العميقة" إلى شبكة من النخب السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والاستخباراتية التي تعمل خلف الكواليس لتوجيه السياسات العامة وصناعة القرار في الدولة، بغض النظر عن إرادة الحكومة المنتخبة ديمقراطيًا. ويُعتقد...
محمد علي الحيدري

الليبرالية والماركسية: بين الفكر والممارسة السياسية

أحمد حسن الليبرالية والماركسية تمثلان منظومتين فكريتين رئيستين شكلتا معالم الفكر السياسي المعاصر، وتُعدّان من الأيديولوجيات التي لا تقتصر على البعد الفلسفي فحسب، بل تنغمس أيضًا في الواقع السياسي، رغم أن العلاقة بينهما وبين...
أحمد حسن
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram