حجاج العراق قبل دخول وسائل النقل اعتادوا على كتابة وصاياهم وإيداعها لدى كبير الأسرة او من هو بمقامه من الأقارب والمعارف ، فالتوجه الى الديار المقدسة قبل اكثر من مئة سنة لم يكن عن طريق الحافلات والطائرات ، وانما عبر سلوك الطريق البري بواسطة قوافل الابل ، يقودها أشخاص يمتلكون خبرة بطرق الصحراء ، والرحلة تستغرق عدة اشهر ، تتخللها مخاطر التعرض لهجمات قطاع الطرق ، وربما الموت عطشا ونفاد المؤونة ، حين يقع قائد القافلة في خطأ فيسلك طريقا اخر يؤدي الى مصير مجهول ، وحوادث من هذا النوع تداولها الجيل السابق ، فقدوا الأجداد والآباء ، ولم يجدوا اثرا لهم ، وعندما ينقطع الأمل نهائيا بإمكانية عودة الحجاج المفقودين مع قائد قافلتهم الى ديارهم ، ينصب اهتمام الابناء على معرفة تفاصيل الوصايا ، لتنفيذ فقراتها وهي بمجملها لا تتعدى موافقة الأسرة على زواج بنت الحجي المفقود من ابن فلان ، والحرص على جمع شمل الاسرة في كل الاحوال والظروف، والابتعاد عن المنازعات ،وتقاسم التركة طبقا لما ورد في كتاب الله.
من المألوف في ذلك الوقت ان يتوقع الراغب في أداء فريضة الحج الموت في الطريق ، وما يشجعه على خوض المغامرة، انه بحسابات بعض رجال الدين يعد حاجا ، ويستحق ابناؤه حمل لقب ابناء الحجي بعد موته ، ونيل شرف اللقب يحتم عليهم تنفيذ الوصية بكل فقراتها لينالوا احترام وتقدير الاخرين ، على قاعدة المرحوم لم يمت، لأنه خلف أبناء بررة رفعوا رأسه بعد مماته.
غركان بن زاير مدلول اصطحب زوجته الأولى معه في رحلته لأداء فريضة الحج ،وكغيره املى وصيته على جاره سوادي ليكتبها بخطه ، لأنه الوحيد في" السلف" يجيد القراءة والكتابة ، فمنحه هذا الامتياز النادر و الفريد من نوعه في ذلك الوقت ، التعرف على أسرار طالبي خدماته بكتابة الوصية ، وعندما شاءت الأقدار ان يكون ابن مدلول وزوجته الاولى في عداد المفقودين ، وبعد طول انتظار وانقطاع الأمل نهائيا بعودته ، حان الوقت المناسب للتعرف على الوصية ، فحصلت مفاجأة لم تكن متوقعة ،حين عرف الابناء بان اباهم اوصى بان تكون أبقاره وأغنامه وبقية ممتلكاته المنقولة من حصة الزوجة الثانية "شذرة " فاندلع الخلاف وبرزت شكوك بان سوادي حرف الوصية ، ليحقق رغبته في الزواج من أرملة المرحوم ، وحسمت القضية بتدخل عائلتها ، واعادتها الى بيت ابيها مع رضيعها ، مكتفية بحصتها من الميراث ،واغلق الملف ، بتحريم الاستعانة بخدمات سوادي في كتابة وصايا الحجاج .
نموذج سوادي حاضر في الساحة العراقية ، وتجسد بأشخاص تصدروا المشهد السياسي لاعتقادهم بانهم يمتلكون الحكمة والرأي السديد في حل الأزمات ، ونفوذهم الرسمي السابق يمنحهم الحق في ان يكونوا أوصياء على العباد والبلاد ، وأصحاب قرارات مصيرية ، في فك شفرة وصية غركان وبعث رسالة من تحت الماء بصوت الراحل العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ.
وصية غركان
[post-views]
نشر في: 14 أكتوبر, 2014: 09:01 م