يوسف العاني قبل عشرين عاماً كان هناك حديث عنه.. اعيده اليوم وفاء لصاحبه: حقي الشبلي.. لا ازيد عليه الا احساساً بأهمية ان يتعرف على ما ورد بالحديث من اشارات تقود الى دلالات ومفاتيح لأهمية وقيمة فنان بنى وأسس وشق درب مسرح العراق المثقف..
**** في يوم الاربعاء 27/مايس/1985.. وبمناسبة احتفالنا بيوم المسرح العالمي الرابع والعشرين.. كنا في انتظاره, فقد اعتاد الحضور مبكرا بعض الشيء, أزف موعد بدء الاحتفال لكنه لم يأت.. استفسر مني عريف الحفل عن موعد الافتتاح.. قلت لننتظر قليلا لابد من مجيء الاستاذ حقي الشبلي.. قال لي الأخ احمد المفرجي هذا صحيح, ذهب.. كان حضوره ليس مسألة رسمية او تقليدية, ابداً, كنت أحس ان حضوره يعني حضور تاريخ كامل, ومشاركته اغناء واكتمال للجو المسرحي الذي يجب ان يكون.. دخل الاستاذ حقي بخطوات ثقيلة ويتكىء على تلميذه –اسعد عبدالرزاق- نهضنا كلنا, ومن يستطيع الا ينهض حين يحضر الاستاذ والمربي والرائد.. اعتذر بأدب جم عن التأخير, هذا شأنه دائماً لايرضى الا بضبط الموعد والالتزام به حرفياً.. بدأ الاحتفال.. وكان يرمق الجميع, الذين تخطوا سن الشباب, او الذين كانوا يمرحون بحيوية السنوات العشرين.. كان يلتفت الى الجميع, ويتملاهم بحنو, عن بعد وعن قرب, ويسألني عن فلان وفلانة وفلان: كان تعبا لكنه فرح فرح الطفولة الغامرة.. وهذا شأنه دائماً حين يضمه لقاء مع طلبته وطلبة طلبته ومع الذين عرفهم او الذين لم يعرفهم.. فما دام هناك موقع مسرح فالذين حضروا فيه هم منه دون شك.. اعتذر مني عن المشاركة في تقديم الجوائز لانه لا يستطيع المشي وصعود درجات سلم المسرح.. دعني اتفرج فقط واستمع فقط! هكذا قال.. ولم نشأ ان نتعبه.. وانتهى الاحتفال وكان يبدو سعيدا سيما حين اعتلى المسرح شباب بعمر الزهور لينالوا جوائز التقييم التي استحقوها بجدارة.. قمت معه.. اسير بجانبه وانا امسك بذراعه.. قال: -يوسف -نعم -وصلتكم الساعة؟ -نعم وصلت وألف شكر ((كان قد اهدى فرقة المسرح الفني الحديث ساعة جدارية)) -تشتغل؟ -طبعا -الحمدلله.. الهم ان تكون ساعة مضبوطة.. ما قيمة الساعة ان لم تشتغل مضبوطة -مضبوطة بالثواني -عظيم.. انني يا يوسف اشعر وكأنني اسير كـ(عقارب) الساعة.. -انت دائما هكذا.. دقيق وحريص على الدقة والامانة. -الان انا احسب الساعات فقط..!! لم استطع ان اخفي ردود فعلي عن هذه الكلمات المؤلمة بالنسبة لي, فقلت على الفور.. -ستظل تحسب الساعات والايام والشهور والسنين.. -لا.. هذا كثير. وعدت اداعبه بكلمات اضحكته, وراح يضرب على ظهري.. كافي.. كافي.. الضحك يتعبني, لكنه يؤنسني سيما نكاتك يا يوسف.. ساذهب, لا استطيع مشاهدة المسرحية, اعتذر لي من قاسم.. -بسيطة استاذ, المهم ان تذهب وترتاح.. شكرا, مع السلامة.. -مع السلامة وفجأة التفت الي ليقول بدعابة: -ديروا بالكم على الساعة!! ضحكنا واشرنا له مودعين.. لكن مسحة من الم خيمت على قلوبنا لعدة ايام كنا خلالها نسأل عنه.. ليقال لنا انه بخير.. بعدها جاءنا خبر دخوله المستشفى وانه فاقد الوعي.. لكننا لم نكن نريد ان نصدق حتى عند رؤيتنا له, كانت الرؤية بلا احساس بها..! ثم تحسنت حالته ليفتح عينيه ويتعرف على زائريه..كان ينظر اليهم ويحس بوجودهم دون أن تكون له القدرة على الكلام معهم..! يالجسامة المصيبة.. حقي الشبلي صاحب الكلام المعسول والحديث الجميل والذي لاتستطيع الا ان تستمع اليه بملء جوارحك, تجده حبيس الكلام, ينظر اليك بعينين دامعتين ويده تتحرك لتقول لك ماتريد.. كيف؟ ذلك الصوت المميز عندنا جميعا منذ اكثر من خمسة وثلاثين عاماً.. نعرفه من بين مئات الاصوات والحناجر, فلطالما ردد عشرات المقاطع المسرحية امامنا ونحن نستمع اليه بشغف لتصلنا كلمات المقطع كلمة كلمة وحرفا حرفا.. ولطالما صرخ منفعلاً حين يتأخر طالب عن الحضور او ممثل عن الموعد او ينسى اخر ما عليه من واجب.. او.. او.. كان الصوت خنجراً في صدر يوليوس قيصر ونسمات عذبة تترقرق بين شفاه (سيرانودي برجراك) وآهات في صدر (ارمان).. واحلاما في عيون (شهريار).. ولطالما تعالى الصوت غناء في حداء يحمل صدى الصحراء في ركب ليلى العامرية, ومناجاة المجد الافل والحب الذي مات قبل ان يموت انطونيو! ولطالما كان الصوت طرباً في غناء عراقي اصيل, مقام الحكيمي والصبا محتويا كل السلالم الموسيقية ومصححا غناء آخرين لايجيدون غير النغم الحلو الذي يغيب مع الريح.. كبير صدى ذلك الصوت وواسع مداه وكثيرة منابعه عبر سنوات طويلة لم يكن يضم صاحبه موقع الا وتعالى مجلجلا او مقهقها او حانيا.. اليوم يحبس الصوت ويختنق في صدر ضم انقى المشاعر واحلاها, وحمل اطيب قلب احتضن الأحبة اباً وصديقاً وأخاً وأستاذاً.. اليوم لا صوت يتعالى.. الاشارة هي التي تعبر, والدموع هي التي تقول كل شيء.. فهل ضاع الصوت في متاهات المرض اللعين؟ الساعة الواحدة من يوم الخميس 20 حزيران/1985.. سكت القلب الكبير وجمدت اليد التي اعتادت اصابعها ان تتحرك حتى في حالات الصمت والسكون, وانطفأت تلك الجذوة الساطعة واطبقت العينان لتحتفظا في قرارتيهما بآلاف الصور والمشاهد وأكداس من الذكريات لاتحصى.. وتاريخ زاه من المجد والتألق والكف
الرائد والرمز: (حقي الشبلي)
نشر في: 9 ديسمبر, 2009: 04:08 م