فيصل الياسري في عام 1977 اخرجت الفيلم الروائي الطويل ( النهر) عن قصة لمحمد شاكر السبع ، وقد تقصدت فيه ان اجمع بعض رواد فن التمثيل في العراق ممن كانوا في منتصف القرن الماضي يقفون في المقدمة ويعتبرون من النجوم والان لم يعدالمخرجون يفكرون بهم إلا نادرا ...
وكانت فرحتهم كبيرة عندما سعيت لزيارتهم بنفسي ودعوتهم لعمل سينمائي جديد كان اولهم ياس على ناصر ، و جسد في الفيلم شخصية نجار وقد اخترنا لتصوير مشاهده دكان نجار حقيقي < فكان يصر على المجيء الى مواقع التصوير في المدائن حتى في الايام التي لا يكون له فيها تمثيل ويدخل الدكان ويمارس عمل النجار كي يتقن دوره في الفيلم .. وكان يقول انه ما زال قادرا على التمثيل ولكن المخرجين لا يفكرون به ربما لكونه موظفا في السكك الحديد فهو من خريجي مدرسة السكك الحديدية عام 1941 في اول دورة لمأموري سير القطارات !! وبالرغم من دوره المتوسط في فيلم النهر إلا انه كان سعيدا به وهو الذي قام بدور البطولة قبل اكثر من عشر سنوات امام برلنتي حميد في فيلم (عفرة وبدر) لمخرجه فالح الزيدي الذي اشركته ايضا في فيلم النهر ، وفالح الزيدي واحد من رواد الحركة الفنية في العراق فقد كان مخرجا مسرحيا وسينمائيا وممثلا ، منذ اربعينات القرن الماضي وهو والد اثنين من اعلام الحركة الفنية في العراق ، هما د.مرسل الزيدي الاستاذ الجامعي في كلية الفنون الجميلة ،وكاظم الزيدي ، الممثل والمنتج المسرحي المهذب والرقيق والملتزم والشهيد .. فقد ذهب ضحية تفجير ارهابي في الباب الشرقي عام 2006 !! والرائد الثالث الذي كسبته ممثلا في فيلم النهر هو الاستاذ اسعد عبد الرزاق ، الذي جسد دور التاجر المستغل لجهود صيادي السمك الكادحين ، وما زالت صورته امامي وهو يتدحرج على شاطئ دجلة او في ازقة مدينة المدائن يسعى وراء مصالحه ، وأعماله التجارية وما ان ينتهي تصويره حتى يطلب سيارة تعيده الى بغداد حيث كان عميدا لكلية الفنون الجميلة ( وقد تولى هذا المنصب من 1972 ولغاية 1988 وقبلها كان عميد معهد الفنون الجميلة منذ عام 1961 وبذا يكون قد قضى اطول مدة تولاها شخص في منصب عميد في العراق ) وكان رابع هذه المجموعة الخيرة من الفنانين العراقيين القدامى الذين اشركتهم في فيلم النهر عن سبق اصرار اكراما لهم وتذكيرا بهم هو رائد الحركة المسرحية في العراق الفنان حقي الشبلي ( ولد في بغداد عام 1913) وقد سره ان يعود الى التمثيل في الذكرى السنويةالخمسين لقيامه بأول دور تمثيلي عام 1926 في فرقة جورج أبيض المصرية عندما جاءت للعراق وقدمت عروضها . ثم أسس هو ابن العشرين سنة الفرقة الوطنية التمثيلية وقد فاجأني عندما اعلمني ان من أعضائها كان الفنانان التشكيليان فائق حسن وحافظ الدروبي وكان ذلك قبل ان يسافر عام 1935 لدراسة المسرح في باريس ليعود فيؤسس قسم المسرح في معهد الفنون الجميلة ، كواحد من اوائل معاهد التمثيل في الوطن العربي !! لقد اصر العاملون في فيلم النهر ان يتباركوا في ان يكون اول مشهدنقوم بتصويره هو للأستاذ حقي الشبلي وقد جمعه ذلك المشهد مع الممثل المبدع سامي قفطان ، وما ان انتهت اللقطة الاولى حتى هجم سامي قفطان على يد حقي الشبلي يقبلها وقد امتلأت عيناه بالدموع وهو يهتف ( احقا انا امثل مع حقي الشبلي ..!!) فضمه حقي الشبلي بين ذراعيه وتعانق الرجلان ، بينما اخذ جميع الحاضرين يصفقون وقد ترقرقت الدموع في عيون بعضهم وهم يراقبون ذلك الموقف المشبع بعواطف النبل والتقدير والاحترام !! كان حقي الشبلي يومها نقيبا للفنانين ، واذكر يوم زرته لأول مرة في مقر النقابة في مدينة المنصور ببغداد عند قدومي في زيارة للعراق بعد غياب زاد على ست عشرة سنة ، وجدته محاطا بعشرات الفنانات والفنانين الذي جاءه كل واحد منهم بطلب او مشكلة او قضية وهو بينهم يحاول ان يحل جميعها بكلمة طيبة اكثر من اجراء او قرار شاف !! لا يريد ان يرد احدا او يخيب املهفكان يزرع الامل عند الجميع !! قال لي ( هؤلاء اولادي ، من اجلهم ومن اجل المسرح والمعهد لم اتزوج حتى الان ولا احسب انني سأتزوج فيما بقي لي من عمر !) كان حقي الشبلي يحمل شعورا عاليا بالمسؤولية بالنسبة للحركة الفنية في العراق ، وكان حريصا علىاخلاق المهنة ، وقد عرف عنه الانضباط والدقة في المواعيد والحرص على الالتزامات .. وكان في اثناء تصوير فيلم النهر يحرج الممثلين الشباب عندما يجدونه قبلهم في موقع التصوير !! وفي فترات الاستراحة كان بعضهم يتجمعون حوله يحدثهم عن مشقات عمل الممثل قبل خمسين سنة ويطلب منهم ان يحمدوا الله على ما يتوفر للفنان في ايامنا هذه من فرص للعمل والإبداع ... وكان لا بد ان يتحدث لنا حقي الشبلي عن بداياته وكيف وقف على المسرح وعمره 13 سنة عندما اختاره (جورج ابيض) ليشارك في عمل مسرحي تقدمه فرقة مصرية في بغداد يومها تنبأ له جورج ابيض بمستقبل كبير وبعد ذلك اختاره (عزيز عيد) للمشاركة في عمل آخر لفرقة فاطمة رشدي للتمثيل عام ( 1929 ) يقول حقي الشبلي ان تلك كانت فرصته الحقيقية للتعرف على فنون المسرح وتقنيات الممثل العرض المسرحي اذ ان عزيز عيد كان بارعا في تدريب الممثل وتفسير النص وتحليله وتحسين طريقة الاداء عند
حقي الشبلي.. في الذاكرة
نشر في: 9 ديسمبر, 2009: 04:16 م