اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الرسام الحزين سوتين

الرسام الحزين سوتين

نشر في: 17 أكتوبر, 2014: 09:01 م

كنت أتطلع الى أعمال الرسام الروسي الذي عاش في باريس سوتين (1893-1943) والتي تعرض بمركز جورج بومبيدو في باريس حيث تحيط بها من الجانبين أعمال صديقه العبقري الآخر مودلياني، رسامان وضعت أعمالهما على جدار واحد وهما يحيطان بعضهما بعضاً بحنو ورقة وعذوبة تشبه عذوبة باريس نفسها. سوتين هذا الرسام المعذب الذي أفكرعند مشاهدتي لأعماله بمصير أغلب رسامي العالم الذين تركوا آثاراً عظيمة رغم حياتهم المليئة بالكآبة وعدم الأعتراف. لقد شدتني أعمال سوتين كثيراً منذ بداياتي، أعماله التي فيها تعبيرية ذات ملامح شخصية فريدة بعجائنها السميكة وأنكسارات خطوطها حيث أثّرت تلك الأعمال على فنانين كبار وعباقرة فيما بعد مثل جاكسون بولوك ووليم دي كوننغ وفرانسيس بيكون وغيرهم الكثيرون.
قرر سوتين في بداياته أن يدرس الرسم في فيلنيوس بعد أن ساعده والده الذي كان يعمل روافاً للملابس بمبلغ الدراسة، ومكث هناك ثلاث سنوات حتى جاءت الخطوة الحاسمة في حياته سنة 1913 وهي السفر الى باريس عاصمة الفن والثقافة في العالم، وهناك تعرف على بعض الرسامين الذين جاءوا الى باريس لتحقيق أحلامهم الفنية مثل شاغال ولبشتز ومودلياني الذي ربطته به صداقة عميقة وكبيرة حتى أن مودلياني قد خلَّد سوتين بمجموعة من البورتريهات التي عبرّت عن شخصيته المضطربة والغريبة، وقد ساعدت هذه البورتريهات مؤرخي الفن وكاتبي سيرة الفنان لمعرفة أسرار شخصيته، وأحد هذه البورتريهات هي اللوحة التي يظهر فيها سوتين جالساً وتنساب خصلات شعره على جبينه دون أكتراث بينما تختفي أحدى ياقات قميصة تحت سترته وتظهر الأخرى بوضوح وهذا ما يشير الى أن الفنان كان لا يهتم كثيراً بمظهره الخارجي الذي يطغي عليه العبث.
في باريس خطا بخطواته مباشرة الى مشغل الفنان فرناند كورمون لأخذ دروس أضافية في الرسم كما يفعل شباب الفنانين آنذاك ، لكنه بسبب شخصيته الصعبة ومزاجه العنيف المليء بالسخرية لم يستطع إكمال الدروس، هو الذي كان جامحاً ولا تحدَّه حدود. ربما لهذاالسبب أيضاً أتجه الى اللوفر لينهل من الأساتذة أمثال شاردان وكوربيه وريمبرانت، وقد أنجذب بقوة نحو هذا الأخير الذي اصبح ملهماً له في استخدام الألوان الكثيفة، وقد وصل شغفه بريمبرانت حدَّ أن سافر الى أمستردام ليطلع عن قرب على لوحة "العروس اليهودية" في متحف رايك ميوزيام والتي تظهر فيها مهارة ريمبرانت وكثافة ألوانه، حتى قال أحد اصدقائه بأنه قد تسلل الى ريمبرانت بنوع من الأعجاب والخوف معاً، وهذا ما أكده هو بعد سنوات أيضاً حين رسم سلسلة من اللوحات مستوحاة من لوحة ريمبرانت ( القِصابة ).
مرَّ سوتين سنة 1920 بنوبة من الحزن والكآبة بسبب موت صديقه المقرب مودلياني وبدأ برسم لوحات مليئة بالحزن والتراجيديا، وقد قارن بعض النقاد هذه الأعمال بأعمال الفترة الزرقاء لبيكاسو ووضعوها بخط موازٍ لها. أستمر هذا الرسام الغريب والعنيد برسم لوحاته التي تشع دراما وقوة تعبيرية، وكان يبيعها مقابل 30 فرنكاً وهو يعاني في سبيل الحصول على الطعام أو الشراب، لكن شيئاً فشيئاً أصبحت باريس تعرفه وتعرف أعماله التي أصبحت اسعارها 470 فرنكاً للقماشة الواحدة وهذا شيء كبير في ذلك الوقت لفنان بوهيمي مثله، ورغم أن النقود ملأت جيوبه الفارغة لكن معدته الفارغة أيضاً من الطعام بدا عليها تأثير الكحول الرخيصة التي كان يحتسيها. كان التحول الكبير في حياته حين أشترى المليونير الأمريكي ألبرت بارنس 52 لوحة من لوحاته وأخذها معه الى أمريكا ، وهذه الأعمال أثرت تأثيراً كبيراً ومباشراً على التعبيرية التجريدية ومدرسة نيويورك .
توفي هذا الفنان الرائع في باريس بسبب القرحة وتمزق في المعدة، ولم يكن في جنازته أحد سوى أربعة أشخاص ظهروا من كنيسة مونتبارناس، أنهم حبيبته ماري كارده وبيكاسو وماكس جاكوب وجان كوكتو، هؤلاء الذين عرفهم وعرفوه جيداً، فتحوا باب الكنيسة وخطوا خطوات بطيئة تحت شمس باريس وهم يلوحون لنعشه ويودعون روحه المبدعة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: العميل "كوديا"

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

 علي حسين ما زلت أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم فولتير.. ففي المتوسطة كان أستاذ لنا يهوى الفلسفة، يخصص جزءاً من درس اللغة العربية للحديث عن هوايته هذه ، وأتذكر أن أستاذي...
علي حسين

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (1-2)عطلة نهاية العام نقضيها عادة في بيت خوالي في بغداد. عام ١٩٥٨ كنا نسكن ملحقاً في معمل خياطة قمصان (أيرمن) في منتصف شارع النواب في الكاظمية. أسرّتنا فرشت في الحديقة في حر...
زهير الجزائري

دائماً محنة البطل

ياسين طه حافظ هذه سطور ملأى بأكثر مما تظهره.قلت اعيدها لنقرأها جميعاً مرة ثانية وربما ثالثة او اكثر. السطور لنيتشه وفي عمله الفخم "هكذا تكلم زارادشت" او هكذا تكلم زارا.لسنا معنيين الان بصفة نيتشه...
ياسين طه حافظ

آفاق علاقات إيران مع دول الجوار في عهد الرئيس الجديد مسعود پزشكیان

د. فالح الحمراني يدور نقاش حيوي في إيران، حول أولويات السياسة الخارجية للرئيس المنتخب مسعود بيزشكيان، الذي ألحق في الجولة الثانية من الانتخابات هزيمة "غير متوقعة"، بحسب بوابة "الدبلوماسية الإيرانية" على الإنترنت. والواقع أنه...
د. فالح الحمراني
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram