منذ نشأته عام 1921 ، كان العراق مرجلاً يغلي من الانتماءات العرقية و القبلية والدينية المختلطة. اليوم، بعد عقد من الحرب و بعد وقوعه تحت رحمة الإرهابيين، يبدو مستقبل البلد على درجة من الخطورة لم يسبق لها مثيل . ولادة العراق بدأ تأسيس
منذ نشأته عام 1921 ، كان العراق مرجلاً يغلي من الانتماءات العرقية و القبلية والدينية المختلطة. اليوم، بعد عقد من الحرب و بعد وقوعه تحت رحمة الإرهابيين، يبدو مستقبل البلد على درجة من الخطورة لم يسبق لها مثيل .
ولادة العراق
بدأ تأسيس العراق بعد الحرب العالمية الأولى عندما كان الحلفاء يصوغون شكل الشرق الأوسط وفقا لمصالحهم الخاصة، حيث بدأ الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورجز بيكو و البريطاني السير مارك سايكس بتقسيم الإمبراطورية العثمانية السابقة الى مناطق نفوذ ، إلا ان العراق ولد فعلا في مؤتمر القاهرة عام 1921 .
هنا أنجز توماس ادوارد لورنس – البطل البريطاني في الحرب العالمية الأولى المعروف بلورنس العرب و الذي نظّم العرب في قوة قتالية – وعده بمنح حلفائه العرب السابقين بلدا خاصا بهم، حيث وافق مؤتمر القاهرة على خطة رسمها لورنس و ونستون تشرشل ، الذي كان حينها مسؤولا عن مكتب المستعمرات، لمنح العرب جزءا من فلسطين ( الأردن) و بلاد ما بين النهرين ( العراق ) . حضرت المؤتمر ايضا مع الوفد البريطاني إمرأة وحيدة هي جيرترود بيل – متسلقة الجبال ، عالمة الآثار ، المغامرة ، اللغوية ، الرحالة و الجاسوسة البريطانية ، و التي يرجع اليها الفضل ، بالإضافة الى لورنس، في ولادة العراق .
في الثالث و العشرين من شهر آب عام 1921 ، و في مراسيم جرت وسط بغداد، تم تنصيب الملك فيصل ملكا على العراق. حينها كتبت بيل تقول " لقد توّجنا ملكنا ". لكن هناك بعض النقاد ممن قالوا ان حدود العراق الجديد كانت اعتباطية و تجاهلت الاعتبارات القبلية و العرقية .تبلغ نفوس العراق 33 مليون نسمة و هو خليط من العرب و الكرد و المسلمين من بين فصائل أخرى .
مستقبل خطِر
هل يمكن ان ينقسم العراق ؟ تكهّن ثلاثة من المحللين في شؤون الشرق الأوسط بمستقبل البلد ، و فيما يأتي وجهات نظرهم :
في عام 2006 كتب كل من ليسلي غيلب، الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية، و جو بايدن عضو مجلس الشيوخ في ذلك الوقت، مقالة في صحيفة نيويورك تايمز تدفع الى " طريق ثالث " مع انحدار العراق الى الفوضى، حيث كتبا يقولان " الفكرة، كما في البوسنة، هي الحفاظ على عراق موحد من خلال تطبيق اللامركزية ، أي إعطاء كل مجموعة عرقية- دينية من الكرد و العرب السنّة و العرب الشيعة مجالا لإدارة شؤونهم الخاصة و تبقى الحكومة المركزية مسؤولة عن المصالح المشتركة. تكون كل من الأقاليم الكردية و السنية و الشيعية مسؤولة عن قوانينها المحلية و إدارتها و أمنها الداخلي بينما تسيطر الحكومة المركزية على الدفاع عن الحدود والشؤون الخارجية و عائدات النفط. سيقول البعض ان التحول باتجاه الأقلمة القوية سيشعل فتيل التطهير الطائفي، لكن هذا هو ما يحصل الآن فعلا بشكل لم يسبق له مثيل . و سيزعم آخرون ان ذلك سيؤدي الى التقسيم، لكن التقسيم حاصل بالفعل. كما في البوسنة، فان النظام الفيدرالي القوي هو وسيلة حيوية لمنع كلا الخطرين". في مقابلة جرت معه هذا الأسبوع، قال غيلب " العراق منقسم أصلا؛ فالكرد يعملون بشكل مستقل الى حد ما وقد دخلوا كركوك خلافا لرغبة حكومة بغداد، كما ان بعض السنّة ينضمّون حاليا بشكل أو بآخرالى تنظيم داعش أو أنهم لا يستجيبون للحكومة، و بقي الشيعة يديرون بغداد و الجنوب . لذا فالعراق لم يعد بلدا واحدا . إنهم يتظاهرون بدولة واحدة ذات حكومة في بغداد، الا انها لا تمتلك سلطة حقيقية على الوسط أو الشمال لذا فانها حكومة موحدة بالاسم فقط ". و يضيف قائلا " سيكون من الصعب التغلب على جراح و كراهية السنوات القليلة الماضية . كما تعلمون ان العراق كان دائما دولة مجمّعة عن طريق القوة، فالأتراك جمّعوه بالقوة لمئات السنين وعندما رحلوا تركوا السنّة يحكموه بالقوة أيضا ، أما اليوم فلا تستطيع القوة ان تجمعه" .
من جانب آخر كتب المحلل غاريث ستانسفيلد ، أستاذ سياسات الشرق الأوسط في جامعة إكسيتر، الشهر الماضي مقالة بعنوان ( العراق ينقسم ) يقول فيها " ما لم ينقسم العراق فان البديل سيكون " حربا أهلية كارثية " من شأنها ان تؤثر على المنطقة بأسرها " . مادام تنظيم داعش قد شق طريقه الى الموصل، فهناك حقيقة جديدة لابد من الاعتراف بها. انه يتصور إقليما في كردستان ، و ردف عراقي من البصرة الى بغداد يهيمن عليه الشيعة و يتبع لإيران ، و دولة إسلامية عدوانية توسعية تمتد من الرقة الى الموصل و الى ضواحي بغداد يكتسب وجودها حاليا شرعيةً في كل يوم". و يضيف قائلا " على ضوء هذه الديناميكيات القوية، فان دعوات الولايات المتحدة و بريطانيا من أجل وحدة العراق تبدو بعيدة المنال بوجود حقائق على الأرض. ان هدف جمع العراق سيؤدي الى ظهور وحش شبيه بفرانكشتاين؛ هكذا ستكون الطبيعة العنيفة المجهولة لتجميع العراق من رماد ما بعد سقوط الموصل". في مقابلة معه الأسبوع الحالي، قال ستانسفيلد " هذا ليس أمرا حتميا لكننا نراه اليوم يتكشف أمام أعيننا. أقول هذا لأن هناك اليوم العديد من الديناميكيات المتناقضة تجري داخل الفضاء السياسي العراقي، فالعراق وفق الأمر الواقع منقسم أصلا الى ثلاث قوى في هذه المرحلة ؛ إقليم كردستان ، الدولة الإسلامية، و ما يسمى بالقلعة الشيعية من بغداد الى الجنوب . لقد وصلنا الى نقطة يسهل عندها ان نتصور عراقا من ثلاثة أجزاء منفصلة أكثر مما نتصوره موحدا . ان فكرة ثلاث دول قائمة بذاتها معقدة للغاية، الا ان فكرة توحيد البلد لا تخلو من التعقيد أيضا . أعتقد أننا نقترب أكثر من أي وقت مضى من رؤية العراق منقسما ".
من جانبه كتب المحلل ديفيد بولوك في مقالة لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط يقول فيها ان مجموعة داعش قد أدخلت العراق في أزمة وجود منذ تموز، ما جعل استقلال كردستان احتمالا حقيقيا لأول مرة خلال قرن من الزمن، الا انه توقّع خليطا من المعوقات الاقتصادية و السياسية ستمنع استقلال الكرد – ناهيك عن انفصال أي جماعة أخرى أقل تنظيما داخل العراق، يقول " ان استقلال الكرد ينتظر على الأجنحة و لم يتحرك حتى الآن الى مركز الصدارة ". في مقابلة معه قبل أيام ، قال بولوك " إنها أزمة عميقة جدا ، يمكن ان نقول ان العراق ينهار أو يتهاوى داخليا، لكن كونه ينقسم فلا أعتقد ان ذلك ما يحصل الآن. من المحتمل ان يفعل الكرد ذلك لأن لديهم حكومتهم المستقلة و قواتهم العسكرية التي هي بمثابة جيش متكامل، لكن هناك سببان يمنعانهم من الاندفاع تجاه الانفصال ؛ أحدهما اقتصادي حيث أنهم مازالوا يعتمدون كثيرا على تسلم حصتهم من إيرادات النفط من بغداد، و السبب الثاني يتعلق بمشكلة سياسة خارجية ؛ فالبلدان المجاورة، خاصة تركيا و إيران، ستقاوم و تعارض انفصال كردستان عن العراق و هذا أمر لا طاقة للكرد به . أعتقد ان السيناريو الأكثر احتمالا هو الأعمال المسلحة التي نشهدها اليوم مع داعش . يمكنني القول ان تدابير الحكومة العراقية و الجهود العسكرية هي نوع من التستر وإبقاء الغطاء مغلقا . كما يمكننا الزعم بأن عمق الأزمة التي يواجهها العراق من تهديد داعش هي أزمة جوهرية طاغية ، أي أنها تلقي بظلالها تماما على أية قضايا أو خيارات أخرى . يتعين على العراقيين القيام بما وسعهم لدرء خطر هذا التهديد المباشر . لا يمكنهم التفاؤل الآن بتشكيل بلدان منفصلة ، أعلم ان هذا قد يبدو متناقضا، لكن أعتقد بأني محق في ما أقول و متمسك به ".