TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > من يدفع الغرامة يا فاندام؟

من يدفع الغرامة يا فاندام؟

نشر في: 20 أكتوبر, 2014: 09:01 م

نادرا ما تجد شعبا يحافظ على الأدب واللياقة حتى وهو يصرخ. وفي سياحة يومين بتونس غمرني هذا الشعور واستمتعت به. وبالأدب ذاته يصرخ سائق التاكسي الذي يلقب نفسه"فاندام"وهو يتحدث الى الشرطي.
البوليس يقول لفاندام: لماذا ترتدي حذاءً رياضيا، هل نسيت ان القوانين بعد الثورة فرضت على السائق ارتداء حذاء رسمي لأنه يعكس وجه البلاد. خذ، هذه غرامة بمائة دينار (نحو ستين دولارا او أرباح يوم كامل من العمل).
الشاب يدفع بطيب خاطر التزاما بالقانون، لكنه يشير الى شارع وسخ قليلا (في الواقع هو انظف من كرادتنا الحبيبة بألف مرة) ويسأل الشرطي: ليس حذائي واجهة للبلاد أمام السياح، بل هذه الشوارع هي التي تمثل صورة بلادنا، وهي كانت انظف في زمان الدكتاتور، انت تطلب مني دفع خطيئة (تعني الغرامة بالتونسي) لجيب الحكومة، ولكن الحكومة التي ترتكب أخطاء، متى تدفع الغرامة للشعب الذي يدفع الثمن؟
فاندام، السائق الماهر، لم يكمل حتى دراسته الإعدادية، لكنه يتحدث الفرنسية والايطالية والانكليزية بطلاقة، ويكره الجشع ولايطلب سوى القليل. وهو ماهر في إدارة سجال ذكي حول بلاده وبلاد العرب. اختلفت معه في تقييم كثير من الأمور لكن سخريته من الانتخابات كانت لذيذة، فتونس تستعد لاختيار رئيس جديد، وتشترط القوانين ان تكون لدى المرشح الرئاسي خبرة. فاندام يسخر ويسأل: خبرة في ماذا؟ هل أتيح للمرشح مثلا ان يعمل رئيسا في كولومبيا او زائير كي يترشح الآن في تونس؟ انه لا يفهم كيف لشخص بلا خبرة رئاسية، ان يصبح رئيسا ناجحا، رغم انه يسخر من هذا الشرط. وقد استعار مثلا هو ذات المثل العراقي، للتعبير عن محنة الجميع: المرشح سيتعلم الحجامة بروس اليتامى!
هذا يومنا الوحيد الذي يمكن ان نتفسح فيه يا فاندام. هل يمكنك ان ترينا كل تونس في يوم واحد؟ الرجل يقول دعك من العاصمة، فروح تونس عند شواطئها. وباجر زهيد اخذ يدور بنا ست ساعات على خرائب قرطاج الفينيقية والرومانية، ثم المناطق التراثية التي تعود للعهد العثماني، وفي منطقة سيدي بوسعيد تلك التلة الخضراء المطلة على الشاطئ، يبدو كل بيت لوحة، وكل باب عملا فنيا، بل ان أسماء الأزقة قصائد منقوشة بتنويعات الخطوط الأندلسية.. في سيدي شبعان، وقرب دار ختاش، ونهج الرزوقي، وبيلاج المرسى.
يحدثنا دليل سياحي عن المكان، وعن سر جمال البيوت البيضاء والشبابيك الزرقاء، وكيف ان البلدية تحافظ على نظافة وأناقة عالية في المكان حتى بعد فوضى الثورة، فهي تفرض الخطيئة (الغرامة) على كل من خالف المعايير.
المكان المتأنق النظيف ليس باذخا. السائح شاعر من البرتغال وهو يقول لي انه مهتم لان الناس هنا صنعوا جمالا وحافظوا على تراث حلو ببساطة ودون بذخ وميزانيات عالية.
قلت للتونسيين: هل يمكن ان نستأجر منكم مدير بلدية منطقة سيدي بو سعيد، بضعة أعوام لعله يفلح في إرشادنا الى فعل ما يجب كي نحافظ على ما تبقى من سحر في مناطقنا التراثية؟ ولعل عقد تنظيف مدينة عراقية صغيرة يدفع فلوسا كثيرة لشركة تركية او كويتية، يعادل كل ميزانية حفظ التراث على الشاطئ القرطاجي هذا.
انهم قادرون على التمسك بسلام وحياة فيها سعادات جمة، حتى لو كانت مجرد ساعة شاي قرب الشاطئ، دونما حاجة لمليارات النفط. ومن الواضح ان الاستعمار والحكومات الوطنية المستبدة على حد سواء، بذلوا جهدا في تعليم الشعب، والارتقاء بذوقه، بحيث ان أمثال فاندام قادرون على صياغة أسئلة صحيحة تسهل الوصول الى إجابات، فترفع لهم قبعتك حتى حين تختلف معهم، وهم يحللون أسباب وجود ثلاثة آلاف تونسي في صفوف داعش، خرجوا من بطن اكثر المجتمعات العربية تعليما وانفتاحا واعتدالا.
يودع المرء تونس وهو يتمنى لأهلها ان يقدروا أهمية ما لديهم، في لحظة انتكاسنا الجماعي داخل حفل القصابين الأعظم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 3

  1. محمد توفيق

    الغرامة وسيلة فعالة لحمايةالنظام العام من بعض الخروقات التي قد تكون مهمة أو أقل أهمية. لكن العراق لايعرف نظاماً للغرامات نهائياً ابتداء بسائقي السيارات الذين في اغلبهم يسوقون بلا إجازات الى الطامة الكبرى وهي تجريف البساتين التي تدخل في رأيي ضمن حدود الجر

  2. علي

    الله يرحم الدكتور علي الوردي عندما انصف المجتمع العراقي وقال ان اغلبه بدوي الطباع فليس للجمال عنده احساس وهذا ما نراه الان من تدمير لكل ما هو جميل في هذا البلد فهم اقسى من هولاكو فاجمل مناطق بغداد تحولت الى عشوائيات وهذا ليس تجني عليه.المتمدنون في العراق

  3. قيران المزوري

    وما العيب استاذي العزيز سرمد في أفكار وهمة المبدع المتفاني سعادة الاستاذ عبعوب الذي جعل من بغداد واحدة من أجمل وانظف مدينة في العالم.. جعل من بغداد الرشيد بغداد عبعوب ...........

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram