أراد ميشيل فوكو وهو يودّع العالم قبل ثلاثين عاماً ، أن يقدّم وصيته على شكل محاضرة لعدد من تلامذته عن الفاشية والسلطة، كان المرض قد أقعده عن الحركة، فاختار أن تكون المحاضرة في شقته الباريسية، ويتذكر تلميذه ورفيقه "جيل دولوز "كيف بدا له الأستاذ ذلك اليوم كأنه يرغب في أن يبقى وحيدا، وأن يسير إلى حيث لا أحد يستطيع اقتفاء خطواته.
رفض ميشيل فوكو في أوج ازدهار الوجودية والماركسية ، أن يُسلـِّم بما يقوله معاصروه من الفلاسفة ، مؤمناً أن الفلسفة لم تقترب من أصل العلة وحين سأله جان بول سارتر: عن ماذا تبحث ؟ اجاب مبتسماً: عن مصباح ديوجين لا عن منطق أرسطو!
لم يقبل فوكو بأفكار الفلاسفة الأوائل ، بل حاول تشريحها، وكان يدرك أن الفيلسوف الوحيد الذي سعى إلى الحقيقة والمعرفة هو ديوجين الإغريقي ، الذي ارتبط اسمه بمصباح كان يحمله في وضح النهار، يفتّش عن الإنسان ولم يهتم، وهو المعاصر لأفلاطون بدراسة ما وراء الطبيعة، ولا بما تخبّئه السماء من أفلاك ونجوم، فكان إذا سمع رجلاً يتكلم عن الفلك يقوله له: متى نزلت من السماء؟ ثم يقول ساخرا : هؤلاء يتكلمون عن الكواكب، وهم لا يعرفون حقيقة ما تحت أقدامهم، ولا ينتبهون إلى ما هم فيه من الظلم وضيق الحال.
لقد استغرق الأمر من فوكو أربعين سنة حتى فهم معنى أن يبحث ديوجين عن الضوء في وضح النهار، وكان مثل جورج اورويل الذي كتب عن روايته الشهيرة 1984 مقالا مثيرا، يعرف ان هناك غشاوة قاسية من الوهم تسيطر على عقول الناس.
في مقدمته لكتاب دولوز الشهير"ضد أوديب"يكتب فوكو ان الخصم الرئيس للانسان هو الخوف الذي يدفعه الى الاحتماء بالسلطة ومحاباتها.
لم يكن فوكو يحاول ان يتنبأ، بل كان يرسم صورة العالم الحاضر حيث لا تزال بعض الشعوب خانعة خائفة يحكمها إما طائفي أو متسلّط .
اليوم نتذكر درس فوكو الشهير عن السلطة، حين نجد الناس تُذبح تحت رايات دينية وطائفية، فيما يحاول البعض أن يوهم البسطاء أنّ عصابات داعش لا تتاجر بالدين وتتخذ منه وسيلة لإرهاب الناس وقتلهم وتشريدهم، وهي ترفع راية دولة الخلافة.. وهي الدولة التي يحلم بإقامتها بعض الساكنين تحت قبة البرلمان العراقي.
للأسف كل ما نراه على شاشات الفضائيات، من انهيار لقيم الحياة، هو صناعة سياسية خالصة. فبأيدي ساستنا الأشاوس كتبنا أسوأ الصفحات في تاريخ البشرية، كلهم مشغولون بابتكار وسائل جديدة للقتل، لكنّ لغة الوحوش واحدة: لا مكان لأنفاس المختلفين معهم.. هناك طريقان لبناء دولة الطوائف، إما القبر أو دروب الهجرة . ليضيف لها دعاة تكفير المجتمع طريقة ثالثة وهي قطع الرؤوس.. داعش أو النصرة ومعهما المليشيات ، هي نتاج تعصب أعمى لا يرى في الآخر شريكاً للوطن، ويصرّ على رفع راية الإقصاء لكل من يختلف معه..
يقول ميشيل فوكو في المراقبة والمعاقبة" المتعصب يصرّ على أن يقيّد العقول "
التعصّب في رؤوسنا وفي سلوكنا اليومي هو الذي جعل الكثيرين منا يروجون لخطاب التخوين والكراهية، وتبرير القتل على الهوية.
التعصّب وتخوين الآخر، هو الذي مكّن البعض من إعادة إنتاج التسلّط والقمع دون خوف من المحاسبة ، وسمحت لبعض مدعي الدين بإضفاء شرعية زائفة على خطاب الكراهية الذي يحيط بحياتنا من كل جانب.
يكتب فوكو: تستطيع الحقيقة أن تُحرّر، أن تفتح العقل وتحلّ الروابط، تمتلك القدرة على إقامة الحرية حيث يهيمن الخضوع، وهي جديرة بأن تولـِّد بدل حياة محددة، يُضيِّع الإنسان فيها، أُفقَ عالمٍ حر .
فوكو في زمن "الدواعش"
[post-views]
نشر في: 20 أكتوبر, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 3
د عادل على
البعث العربى الاشتراكى وصدام والبكر وحردان وعماش والدوله البعثيه مسئوله عن الاستقطاب الطائفى- لم يكن فى العهد الملكى والعصر الكريمى طائفيه متعصبه وقاتله -عندما بدا الصراع الشيوعى البعثى فى1959 المسيطرون على الشارع والجماهير كانوا الشيوعيون-بينما كان
ياسين عبد الحافظ
فى البحث عن الحقيقة,يشترك القلب والعقل هذا ما احس به كانسان, لااريد ان اكون مثل اوديب فى بحثه عن حقيقته, براى البسيط بعض الامور يتدخل القلب او الضمير ليرسما احلى صورة للانسان
مصطفى جواد
وهل يمكن للعراقيين الا ان ينتجوا مثل هذه المجموعة السياسية ننتخبهم ثم نصنع كراسيهم ثم نعلي ارجلها ثم لا نكاد نصلهم ...في مظلمة حقيقية تعرضت لها شخصيا مع مجموعة كبيرة من شخص محسوب على النخب السياسية لم نجد من يستمع لنا خاطبناهم من خلال وسائل التواصل الاجت