TOP

جريدة المدى > عام > عن هناء مال الله بمناسبة معرضها الأخير في لندن

عن هناء مال الله بمناسبة معرضها الأخير في لندن

نشر في: 20 أكتوبر, 2014: 09:01 م

تستهدف الفنانة هناء مال الله في تجربتها الطويلة العودة بالرسم الى ينابيعه الاولى ، الى اقل قدر ممكن من الخطوط والالوان ، وهي في الواقع فنانة معاصرة ، بوعي حديث ، درست الرسم في أكاديميات (حديثة) وتوفرت على عدد وخامات حديثة صنعتها التكنولوجيا المتقدمة.

تستهدف الفنانة هناء مال الله في تجربتها الطويلة العودة بالرسم الى ينابيعه الاولى ، الى اقل قدر ممكن من الخطوط والالوان ، وهي في الواقع فنانة معاصرة ، بوعي حديث ، درست الرسم في أكاديميات (حديثة) وتوفرت على عدد وخامات حديثة صنعتها التكنولوجيا المتقدمة. التي لا تتيح كل ذلك الصفاء ، الصفاء الذى رآه إقليدس عاريا .
من حق هذه الفنانة التأملية ، التي تقترح منذ عقود، مذهبا جماليا شخصيا جدا ، ان تجرب في الاقتصاد اللوني والخطي ، وان تشذب العالم من التراكم ، وصولا الى عوالمها البعيدة الصافية .
كانت في بغداد ، دائمة التردد على المتحف الوطني ، عندما كانت ابوابه مفتوحة ، أطالت التامل هناك، واقترحت العزلة بوصفها رحلة إنقاذية للذات من الإفراط الاجتماعي . خطر لها ان تستقر هناك ، ان تبدأ من هناك ، من تلك اللحظة التي قرر فيها إنسان مابين النهرين ان يصنع الجمال ايضا .
لكن العزلة الإرادية ليس من مهامها المساعدة على انتاج فن خاص ، على الرغم من انها قد تفضي الى نظرية خاصة وعميقة عن جوهر الفن .
لم يكن احد اهم أساتذتها وربما الاستاذ الوحيد ، منظرا جماليا كما ينظر اليه في الغالب ، شاكر حسن ال سعيد كان متصوفا حداثويا ، غربي الثقافة ، بمعنى انه كان يعمل عمل الاركيولوجي في تحري ما تحت سطوح الأشياء ، وعمل الفيلسوف في انتاج المفاهيم ، وعمل المتصوف في حمل كل ذلك باتجاه السماء ، هو لم يتوقف عند مهمة (الجميل) في الوجود ، الرجل كان في مسعاه الشخصي مندفعا نحو الاستقرار الروحي في هالة الجليل ، ذلك السر الذي يطبع الوجود بالجمال وسواه على حد سواء .
من هنا ، لم تكن تلميذته هناء مال الله ، بصدد بناء نظرية في الجمال ، بل عملت على تقديم تأملات في مجمل معنى الوجود عبر رؤيتها الجمالية ، قدمتها في طريق رحلتها النظرية ، ربما تأثر فنها بهذا القدر او ذاك بتلك ( الشطحات ) المعرفية التي يصادفها المتأمل في عزلته . او تلك التي اخذتها عن الاستاذ .
وبالقدر الذي كانه شاكر حسن ال سعيد درسا مهما في قصة الرسم العراقي ، ستكون هناء مال الله كذلك ، ليس عبر مغامرات تقديم النتاج الفني المدوي و الصادم ، ولكن في معنى تصاهر اعمال الفنان مع نظريته . ذلك الانسجام الخفي بين تطلعات العقل و تاريخ الروح .
في أعمالها الاخيرة ، في معرضها الأخير ، الذي قدمته في ( بارك غاليري ) في لندن ، هناك هذا الاختزال والفقر المقصود في الاعمال المعروضة ، شحوب في تنوع المواضيع ( ليس المضامين ) وطرق معالجتها وفقر دم لوني متعمد . مع اقتصاد واضح في الخامات .مع وجود بعض الاعمال ( في الحقيقة انا شاهدت صور عملين وربما ثلاثة ) يمكن ان نسحبها الى الفن التركيبي بتردد ، ولكن (هدهد ) هناء مال الله ، كان بطل حكايتها و طائر عزلتها الكئيب الذي يشي باليأس والوحشة ، وبالرغم من وجود الغصون الخضر المورقة ، فإن ذاك الطائر وهذه الغصون لسوء الحظ ، لا يحملان الى عمق محيط روحها المضطربة اي رسالة سلام واخبار سارة من اليابسة التي هي المستقبل ربما. وتحديدا مستقبل بلدها ، الذي تيبَّست أغصانه في سجن تقول لنا الالوان ، هو ذلك الخراب الذي حل به بعد الاحتلال الأميركي ، حيث تعلق القفص في نسيج الطائر نفسه وأصبح قطعة منه ، والموت هو الهدنة الوحيدة لهذا الاشتباك . الموت الذي جاء على هيئة جمجمة تعلوها كلمة (truce) هدنة تسيل دما اسود هو في الواقع ليس بدخيل على سطح اللوحة وإنما جزء من تكوينها ،
الحق ان تجربة هناء مال الله الجديدة ، هي درس في الاختزال ، ودرس في تكثيف الشفرة ، كما انها درس في معالجة الفراغ الذي لم يعد يعمل هنا كخلفية للأشكال وإنما هو الشكل الاكثر حضورا ونصوعا وبلاغة ايضا .
هناء مال الله هنا ، وكما في سابق عهدها ، اختارت طريقها الموحشة الخاصة ، بعيدا عن الحضور الإعلامي في قلب التجربة الفنية وضجيجها ، بعيدا عن نتاجاتها وتراكمها وخلاصاتها .
هي فنانة تتجاوز التاريخ في محاولة للاستقرار في كهفها الشخصي ، تحفر باناة وأناقة على صخور عزلتها خطوطا (شرقية) تنتمي الى الفن الآسيوي القديم ، وذلك يجري في الألفية الثالثة التي تعيش مطلعها في واحدة من اهم عواصم العالم وحواضره الفنية . بعد ان غادرت العراق حيث متحف ذكرياتها ومسقط راس أعمالها الاولى ، منذ كانت رسامة الأطفال الأنيقة في توزيع الخطوط على الفراغات البيض.
هناء مال الله بسلاحها النظري ، وتمرينها التأملي ، سوف لا تتقبل منا اي ضجيج نفتعله حول أعمالها ، هي مكتفية باقل حضور وأعظم غياب ، راهبة متعففة لا يفتنها اي ضوء مخادع .
تلميذة فريدة لأستاذ فريد في مدرسة شاء لها القدر ان تكون فريدة هي الأخرى . مدرسة بأستاذ واحد ومقعد واحد لطالبة مجتهدة.
هناء مال الله تخلق في سماء الفن لوحدها ، هناك طائر اسود بعيد يفرش جناحيه المتعبتين في الأفق ، بعيد عن أشعة الشمس المخادعة . ذلك هو طائرها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

جلسة "القوانين الجدلية" تحت مطرقة الاتحادية.. نواب "غاضبون": لم يكن هناك تصويت!

القانونية النيابية تكشف عن الفئات غير مشمولة بتعديل قانون العفو العام

نيمار يطلب الرحيل عن الهلال السعودي

إنهاء تكليف رئيس هيئة الكمارك (وثيقة)

الخنجر: سنعيد نازحي جرف الصخر والعوجة

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram