إلى شباب حملة (أنا عراقي.. أنا أقرأ) إعجاباً وعرفاناً
الكتاب مثل الإنسان يصلح نديماً أو لا يصلح.
علاقة القارئ بالكتاب إنسانية، أي يحكمها ما يحكم أية علاقة إنسانية في الوجود. غير أن الكتاب ليس هو المسؤول، وحده، عن فشل السهرة وخيبة أمل نديمه القارئ. القارئ، أيضاً، يتحمل مسؤولية السهرة. وإذا طرد القارئ كتابه من سهرته، فهو الطرد، أصلاً، من سهرة الكتاب، لأن الكتاب نديم على غاية التهذيب وأكثر رقة من قارئه بما لا يقاس.
لنتخيل، أن نديماً، لعبت برأسه الخمرة فاغتاظ، لشعور غامض ينتاب السكارى، غالباً، فرمى بنديمه، الكتاب، بعيداً، مفضلا توحده مع كأسه المضطربة، سيرتضي النديم غلاظة نديمه ليتركه حاسراً ملوماً يغالب وحشته المحتدمة وهذا جزاء من يسيء أدب المنادمة واللطف مع الجلاس.
دائماً أتذكر جان بول سارتر بصدد الكتب: الكتاب يتحداني فأتحداه. أي مهما بلغت صعوبة الكتاب وغموضه علي أن أتحلى بالصبر للظفر بالتغلب عليه لتتحقق المتعة التي هي ذروة المعرفة، مثلما المعرفة هي ذروة المتعة.
من جرب الوحدة يدرك معنى أن يكون الكتاب نديماً.
من بين عاداتي أن أضع كأساً من النبيذ أمام المدفأة على طاولة القهوة، أو على طاولة الحديقة، صيفاً، بينما أحتضن كتاباً.
ثمة لحظة، لا أريد أبلغها، أو تبلغني، عندما يحدث ذلك الفاصل بيني وبين نديمي، عندما أحس بأن الكتاب، نديمي المهذب،
يرفضني لأنني ثملت.
يتجلى ذلك الرفض بأشكال عدة من بينها ضعف التركيز. الكتاب هو لحظة تركيز معرفية لكن نديمه (القارئ) خذله في لحظة مضادة.
مثل الناس كلهم، ليست كل الكتب تصلح ندامى.
بالمقابل، ليس كل القراء يصلحون ندامى للكتب.
للكتب ذاكرة ومشاعر ومواقف واختيارات.
كان كارل ماركس يحب البيرة، حسب بول لافارغ، صهره، وكان يستهلك من أعواد الثقاب أكثر مما يستهلك من السجائر لأنه أما شخص شرود أو مشغول بالتفكير والكتابة، أو الاثنان معاً، لكنني لا يمكن أن أتخيله نديماً لسبب بسيط: من هو مسكون بتغيير العالم يحتاج قارئاً في منتهى الصحو. ماركس يصلح صديق حوار جدي لا نديماً ممتعاً، حسب.
الروائيون والشعراء، لا الفلاسفة والباحثون، ندامى في منتهى الرأفة والإتيكيت. أنت ترتشف، لا تزدرد، كأس نبيذك، أحمر أو أبيض، وثمة من ينادمك بحكاية أو قصيدة، مثلما تنادمك جدتك او أمك، وحتى صديقك الحكاء، فتدخل الحكاية في نسيج النبيذ ودفء الموقد أو نسمة صيف في حديقة مبلولة.
كلاكما، أنت ونديمك، تنتظران من بعضكما بعضاً تلك الأريحية التي يكفلها التبادل الإنساني بلا مجاملات.
ملاحظة: هي ليست دعوة لاقتران كأس أو كأسين من النبيذ بقراءة كتاب. إنما هي سانحة شخصية، لا أكثر، تتعلق بقارئ للكتب يجعل من بعضها ندامى في لحظات الوحدة، لأن الكثير من الكتب التي لا تصلح للمنادمة تصلح لجلسات عمل، او سيمينارات بحث صغيرة بين اثنين: الكتاب وقارئه، نهاراً، وحتى ليلاً، في أكثر الحوارات جدية واجتهاداً ومطاولة.
القارئ الشاب للكتب يحتاج أعلى درجات اليقظة والتركيز لأنه يدخل عالم الكتب بدهشة المعرفة الأولى، ومنها سيتأسس قارئاً خلاقاً، وربما كاتباً خلاقاً، فيما بعد.
كان أجدادنا الأمويون والعباسيون يجعلون من ليالي سهرهم وسمرهم صالونات أدبية لتبادل الشعر والحديث والغناء على ما في تلك الليالي من لعب وغزل وممالحات.
القراءة فعل واعٍ لا يجوز إفساده بتلك الدرجة من النبيذ التي تطيح بيقظة الفكرة الجادة وتحولها إلى اضطراب ضار بين المتكلم والسامع.
إقرأوا لتعرفوا العالم من حولكم، لأن العبقرية هي معرفة العالم، كما قيل، والكتب هي خبرة العالم في ورق مطبوع.