لا يحتاج أحدنا أن يكون نبياً، أو عالماً بالأمور، أو منجماً، لكي لا نقول لا يحتاج أحدنا لأن يكون محللاً سياسياً أو على الأقل مراقباً لما حدث وسيحدث لكي يتنبأ بأن كوباني، المدينة الحدودية المحاصرة عند الحدود التركية السورية من قبل ميلشيات إرهابيي داعش ستسقط عاجلاً أو آجلاً. نعم أنها مسألة وقت وستسقط بيد القتلة القدماء الجدد هؤلاء، لأن بدون مساعدة من الخارج – وهذا ما لن يحدث بتاتاً فحتى كتابة هذه السطور لا يزال العالم يغمض عينيه عن الكارثة القادمة هناك – لن يكون بمستطاع المقاتلين الأكراد مواصلة المقاومة أمام عدو يتفوق عليهم عدداً مثلما يتفوق عليهم بما يملك من أسلحة حديثة ومعدات. ثم كيف سينتصر الأكراد ودبابات الجيش التركي في ظهرانيهم، ووزير الدفاع الأميركي يقول "الأولوية لنا هي العراق". الأكراد الأبطال هؤلاء الذين أبدوا شجاعة فائقة حتى الآن، النساء والرجال هؤلاء الذين علينا رفع القبعات لهم، يقاتلون وهم مطوقون من كل الجهات.
المجزرة القادمة التي تدق على الأبواب لن تكون كارثة لبقية المقاتلين المدافعين عن المدينة وحسب، بل ستكون الشرارة التي ستشعل سلسلة من المواجهات في عموم تركيا، مثلما ستكون الشعرة التي ستقضم ظهر البعير التركي الرابض بدباباته على الحدود التركية السورية بمواجهة كوباني، والتي ستجعل أخيراً البلد العضو في حلف الناتو الواقع على مضيق الفسفور يسقط في أتون الحرب الأهلية السورية.
حتى اللحظات هذه يراقب الأكراد في تركيا بحذر وترقب ما يحدث ومرارة متراكمة في دواخلهم، يغلون من الغضب، أمر مفهوم، فهم يعاينون كيف أن الجيش التركي بقضه وقضيضه يقف على مسافة قريبة من كوباني، والأكثر إثارة لغضبهم أن الجيش هذا لا يمتنع عن مساعدة أخواتهم وإخوانهم في كوباني وحسب، على العكس، الأكراد في تركيا يرون بأم أعينهم، كيف أن الجيش التركي نفسه الذي يتشدق أمام العالم بأنه يقف على الحياد، يمنع الأكراد المسلحين القادمين من عموم تركيا ومن أنحاء سوريا الاخرى بالالتحاق لمساعدة أخواتهم وإخوانهم ويضع العراقيل في طريقهم لكي لا يكون بإمكانهم الوصول إلى المدينة المحاصرة لدعم المدافعين عنها عن طريق الأراضي التركية.
العصيان الذي حدث في الأسبوع الماضي في الأقاليم التركية الواقعة في جنوب شرق تركيا والتي تسكنها أغلبية كردية راح ضحيته حتى الآن أكثر من 30 قتيلاً، لم يكن عصياناً كبيراً، إلا أنه كان في كل الأحوال علامة إنذار ضعيفة لما يمكن أن يحدث لاحقاً، عندما ستسقط كوباني تماماً في أيدي الجهاديين من القتلة القدماء الجدد.
الحكومة التركية تعرف ذلك، لذلك طلبت من الزعيم الكردي المسجون عبدالله أوجلان وهو في سجنه، مرة أخرى أن يتحرك ويدعو الأكراد الى الانسحاب من الشارع. حدث ذلك قبل أسبوعين، وللمرة الثانية لم يذعن عبدالله أوجلان للعب هذا الدور. على العكس، عبدالله أوجلان منح الحكومة التركية مهلة حتى يوم الأربعاء الماضي لكي تتخذ خطوات ايجابية، وإلا فإن محادثات السلام التي بدأت منذ عامين ستتوقف. النتيجة ستكون معروفة طبعاً: مصادمات دامية في الشوارع وحرب مسلحة طويلة لحزب العمال الكردستاني.
كوباني كانت الفرصة الكبيرة. لم تسنح قبلها فرصة أكثر مناسبة بهذا الشكل في الماضي للرئيس التركي رجب أوردوغان، لكي يؤمن لنفسه شكر الأكراد في تركيا وفي سوريا. كان يحتاج أن يساعد فقط.
أردوغان ملك بين يديه فرصة ثمينة، كان بإمكانه أن يضع الحجر الأساس لإنهاء الصراعات الدائرة مع الأكراد منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، بدل ذلك وفي سبيل أحلامه ليكون قوة كبرى في الشرق الأوسط ضحى بالسلام مع الأكراد، وغامر بجر بلاده وتمريغها في وحل الحرب الأهلية في سوريا. رجب أردوغان لم يكن السياسي الأول ولن يكون السياسي الأخير في منطقتنا الذي يكشر عن أسنانه، ويثبت بأنه يمكن أن يكون كل شيء باستثناء أن يكون رئيس بلاد يؤسس لثقافة سلام.
في 26 أبريل/نيسان 1937 أغارت الطائرات الألمانية التابعة للفرقة المقاتلة الألمانية "كوندور" على المدينة الإسبانية الصغيرة الواقعة في إقليم الباسك، غيرنيكا. طائرات هتلر أبادت المدينة الصغيرة المقاومة لمساعدة حليفه الفاشي الجنرال الإسباني فرانكو الذي طوقت قواته المدينة. في ذلك الوقت وقف العالم "المتحضر" أيضاً متفرجاً.
كوباني التي يدافع عنها بطلات وأبطال أكراد حتى النفس الأخير، ستكون غرنيكا أخرى، فطوبى لمن سيرسمها ولمن سينشدها شعراً أو نثراً، ويجعل مثالها خالداً يطوف على الأرض بكل ما يملكه من إدانة ونذير، مثلما جعل بيكاسو خيال غرنيكا يطوف علينا على مر كل هذه السنوات!
كوباني..غيرنيكا القرن الحادي والعشرين
[post-views]
نشر في: 21 أكتوبر, 2014: 09:01 م