مثل باقي الأجناس الأدبية ، تقصّر الدراما العراقية في التعبير عن معاناة الإنسان في بلدٍ يتصدر قائمة البلدان الأكثـر سخونة بل اشتعالاً ليس في المنطقة فحسب بل في العالم . و لهذا التقصير أسبابه المتعددة العديدة التي لا يزال
مثل باقي الأجناس الأدبية ، تقصّر الدراما العراقية في التعبير عن معاناة الإنسان في بلدٍ يتصدر قائمة البلدان الأكثـر سخونة بل اشتعالاً ليس في المنطقة فحسب بل في العالم . و لهذا التقصير أسبابه المتعددة العديدة التي لا يزال - حتى اللحظة- يجهد في تأويلها و يختلف عليها نقاد الأدب العراقي . لكن المتفق عليه أن هذا الخلل الوظيفي أدى الى انزواء الدراما العراقية الى ركنٍ ظليل يحول بينها و بين الانتشار على مستوى الوطن العربي كما تفعل الدراما السورية و المصرية.
يتابع العراقيون هذه الأيام كوميديا تلفزيونية مسلسلة بعنوان ( دولة الخرافة ) من إنتاج شبكة الإعلام العراقي يكتبها ثائر جياد الحسناوي و يخرجها علي القاسم . يرى القائمون على العمل أن داعش نجحت في نشر الذعر في العراق ، و العالم ، بوسائلها الإعلامية التي تبث مشاهد غاية في الرعب و الدموية كجزء هام من حربها النفسية و أن ذلك يتطلب دعاية مضادّة تبدّد الخوف و تنشر الطمأنينة و ترتفع بالروح المعنوية و أن الكوميديا إحدى أهم الوسائل لتحقيق هذا الغرض . و "دولة الخرافة" عمل بسيط لا يعتمد على ميزانيةٍ باذخة و حشدٍ كبير من النجوم ومواقع التصوير بل يضطلع به عددّ محدود جداً من الممثلين ( أغلبهم من الشباب الذين. طلب بعضهم عدم كتابة اسمه في التايتل عملا بمبدأ السلامة ) داخل الأستوديو . الأستوديو المتواضع تم تصميمه كمدينة عراقية لا تحمل اسماً معيناً تُبتلى بالعيش تحت حكم ( الخليفة) و تعاني في حياتها اليومية من حكمه الجائر . المدينة الافتراضية هي عبارة عن شارع صغير و مقهى شعبي ( مقهى الخليفة ) و صالون حلاقة ( حلاقة الخليفة ) و دكان خضراوات ( خضراوات الخليفة ) و تقوم الكوميديا على المفارقة والتناقض الصارخ بين الحياة الوادعة المتسامحة التي يعتادها السكان من جهة و التشدّد المفرط الذي يأمر به الخليفة و يفرضه رجاله الملتحون بالسوط و السلاح من جهةٍ أخرى . يظهر الخليفة في دار الخلافة بزيه الأسود التقليدي متوشحاً السيف تحيط به لافتات سود كتب عليها : طائفية ، تهجير ، سبي و تفجير و يحيط به عدد من المستشارين الأجانب بتشخيص كوميدي و يقف بين يديه ( الرفيق) بملابس عسكرية في إشارةٍ الى تعاون بعض أقطاب النظام السابق مع ( تنظيم الدولة ) و كما تشير الى ذلك أغنية الشارة التي يؤديها عدد من الرجال الملتحين حاملين السيوف و البنادق :
جينا لهدم العراقِ.
حنّا و بعض الرفاق
ولدولة الخرافة قناة تلفزيونية اسمها ( دم بي شي ) تظهر فيها مذيعة الأخبار( الفنانة سولاف) تغطي وجهها و جسمها بالكامل و خلفها تظهر خارطة الدولة مرسومة بالدماء و الجماجم البشرية تملأ الشاشة . تقول أغنية الشارة أيضاً : و اللي يفجر بشدة. مع الرسول يتغدى
و. حرمنا شرب السيجارة.
و هجرنا كل النصارى
و حرمنا كل شي إباحي.
إلا جهاد النكاح
أما اللازمة المتكررة بين المقاطع فهي : يا قاطع الرأس وينك
يضحك العراقيون كثيراً من هذه الكوميديا السوداء فلطالما أثارت رؤوسهم شهية الطغاة على مدى تاريخ العراق الطويل منذ أيام ( الأمير ) الحجاج بن يوسف الثقفي الذي كان يرى أن رؤوس العراقيين قد ( أينعت و حان قطافها ) فأصبح مثالا للحاكم ( الرشيد ) و للأمانة التاريخية فإن البعض من أقطاب النظام السابق لم يكن يجد الحرج في التغني بسيرة ( ابن جلا و طلاّع الثنايا) الى درجة تأليف الكتب عن سيرته العطرة مرورا بهولاكو الذي صبغ مياه دجلة بدماء العراقيين و حبر كتبهم الى الزعماء المناضلين في الحكومات الوطنية الذين ابتكروا المقابر الجماعية الحديثة.
لا يخلو العمل الكوميدي - كالعادة- من بعض الإسفاف لكن حسناته يُذهبن السيئات ليعود رصينا هادفا . ومن حسناته الكبرى أنه ينأى بنفسه تماماً عن الطائفية البغيضة فالمدينة العراقية المفترضة ، مثل المدينة العراقية الحقة ، لا تكتسي بحلة طائفة معينة و سكان المدينة جميعا مبتلون بهذا الدخيل ومنهم رجل الدين السني المعتدل الوقور ( إمام المسجد ، الفنان القدير طه علوان ) الذي لا يحرّم ما أحلّ الله ولا يبيح ما حرّم الله ويحظى باحترام سكان المدينة جميعا.
في تفسير ظاهرة المعالجة الكوميدية للأحداث الجسام يقول أهل الأدب ، عادةً ، أن إرادة الحياة تغلب سواها و هو قولٌ شائع لا معنىً دقيقا له ولا محل من الإعراب فكلّ بني البشر يحبون الحياة وينفرون من الموت فطرة الله و لا يختص العراقيون بهذه الخصلة لكني أزعم أنّ بني قومي ألفوا الرعب و الجزع ، فقد نزل الموت بديارهم و طاب له المقام فاعتادوه . ورأوه بأمّ أعينهم يرتع و يلعب بين ظهرانيهم : في البيت و الشارع و المقهى والمسجد و السوق و المدرسة و خبروا كل أشكاله : مفرداً أو جمعا راجلا أو راكبا صامتا أو مدويا لا فرق ولذا خلصوا الى السخرية من القتلة لأنهم ، العراقيون ، تعلموا جيدا بعد طول التجربة أن الطاغية الجديد الذي يقطف رؤوسهم كلما ، وأينما أينعت سيمضي كما مضى أسلافه الطغاة و ستعود ربوعهم راضية مرضية ، صافية عذبه مثل ماء دجلة الرقراق الذي ينهل منه فيرتوي كل العراقيين على اختلاف الملل و النحل و لو بعد حين.