الكتاب هو سيرة العالم بكلمات.. لم أعرف شاعراَ عراقياً أعطى من وقته وجهده وأحلامه، بعد الشعر، لما يمكن أن أسميه: النشاط الاجتماعي للثقافة، والكتب في قلب الثقافة.
أحمد عبدالحسين مثال القصيدة الكادحة، لأنه يشتغل على الشعر والناس، معاً، في حزمة واحدة، حيث لا انفصال بين الشاعر والآخر المحتاج للشعر بمحتواه الاجتماعي مهما أشكل أو تغامض أو التبس على المواطن العادي، فالشاعر، مثل أحمد، حاضر في الشارع قصيدة تشمّر عن ذراعيها قبيل الشروع في بناء بيت: بيت شعر أو بيت سكنى، ليخلط التراب بالماء بالشمس بحرقة القلب.
ذلك ديدن العراقي المأخوذ بعراقيته بكل ما فيها من يأس وأمل ومرارة وحلاوة ومكابدة الأمل زيتاً لذلك الفانوس الصغير الذي يحمله الشاعر على هيئة كتاب أو قصيدة أو عمود صحفي، عابراً نحو عراقيته غير آبه بالقومية والدين والطائفة وكم بدا لي متوارياً خلف نصه مكتفياً بطاقة الكلمة الظاهرة لكشف الكلمة الباطنة، وهي لعبة لا بد منها لأنها على غاية الجد.
الشاعر والشارع اسمان يتبادلان المواقع و يكونان في الموقع نفسه، وليس سوى تقديم وتأخير في حروف الكلمتين.. كل منهما يضيء الآخر، يتعلم منه، يأخذ منه ويعطيه، صديقان ندّان، حميمان، حرّان، يلتقيان ويفترقان، يتحاوران، يتفقان ويختلفان، فبأي آلاء شاعركما تكذبان؟
قرأت شعر أحمد منذ سنوات بعيدة، فعرفته من شعره لأعرف شعره منه، لاحقاً، ولأكتشف الاثنين في واحد: الإنسان.
ليس سهلاً أن يكون المرء إنساناً.
الكتب الجيدة، كلها، تجاهد، منذ أن كانت أفكاراً جنينية في رؤوس كتابها، لجعل المرء إنساناً.. هنا يتجلى الأخذ بوجهه الخلاق ليعود عطاء بوجهه الخلاق عبر إعادة انتاج المعرفة في كتاب يضعه القارئ المنتج أو يروّج له أو يدسّه بين تلك الأيدي الشغوفة بالورق الحكيم والأعين المسكونة بالأسئلة.
في دورة القراءة والكتابة والكتابة والقراءة التي لا تني تستدير حول قطبيها أو تطوف العالم من أقصاه إلى أقصاه، يكمن سر حياة العالم وتطوره وصعوده، وما أحمد عبدالحسين، والذين معه في حملة "أنا عراقي.. أنا أقرأ" سوى دورة مصغرة من دورة الكتابة والقراءة حول العالم، في بلد يغرق بالأمّية والفساد والعنف، ولا يعير الثقافة أي قيمة، حتى لو مجاملة، لكن هؤلاء الشبان الأغيار، مصابون بموهبة استثائية: ترويج الكتب.
الكتب الجيدة تنوس بين حروفيتها ومجازيتها، فثمة الكلمات، هنا، وثمة معانيها، وفي المعاني يكمن التفسير والتأويل. القارئ يقرأ ليفسر ثم ليؤوّل، وإذا كانت التفاسير تتعدد، فالتآويل بلا عدد ولا نهاية، من هنا ينشأ إصرار الكتب على استيلاد كتب أخرى، منذ رقيمات آشور وبابل حتى أحدث كتاب إلكتروني.
يصدر ألبرتو مانغويل كتابه الرائع (تاريخ القراءة) بعبارة لغوستاف فلوبير: "إقرئي كي تحيي" وهي، حسب الكتاب، رسالة إلى الآنسة شانتيبي حزيران (يونيو) 1857.. ومانغويل، هذا القارئ الخطير للكتب لا يعجز عن الإتيان بما هو أهم أو "أكثر دقة" من تلك العبارة، لكن المخاطب المؤنث هنا ذو دلالة استثنائية فالمرأة القارئة هي المرأة الحية، وإذا كانت المرأة حية فهي القادرة، وحدها، على تربية المجتمع ليكون حيّاً.
هل يسبح أحمد والذين معه ضد التيار؟
نعم ولا. إنهم يسبحون ضد تيار البلد، تيار الدم والفقر والمجهول، هذه الأيام، وما يقومون به هو مواجهة الرصاص بالكتب.. وهي مهمة دونكيشوتية، لكنها سباحة مع التيار، خارج البلد، حيث بقية العالم تقرأ وتكتب وتعشق وتحلم وتغني وترقص مثل الكتب.
إنهم يصعدون من الطين إلى الحلم. وكل صعود تجلٍّ، وفي التجلّي مواقف ومواقف تقرّبهم وتقرّبنا من سماوات على غاية الاتساع.
أحمد عبدالحسين ومن معه
[post-views]
نشر في: 27 أكتوبر, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 1
امير عبد علي
ارى انك اجحفت بحق شعب عرف عنه، بلد الشعراء والكتاب والبلد القارئ لما يصدر في الوطن العربي بقولك ( بلد يغرق بالأمّية والفساد والعنف، ولا يعير الثقافة أي قيمة، حتى لو مجاملة)وما احمد عبد الحسين وانت الا من ذلك النسيح فأن مرت غمامه انيه وزائله لا يمكن اقراره