لطالما منيت نفسي بالسير ماشيا أو على دراجة هوائية إلى مقر عملي في الجريدة التي كنت أعمل فيها، دونما الحاجة للسيارة فهي لا تبعد عن بيتنا سوى ثلاثة كيلومترات، وتكون أمنيتي أبلغ في الشتاء، حيث المطر وزوال الغبار وابتعاد الشمس. لكن الأمنية الحقيرة هذه لم تتحقق يوما لأن الشوارع التي في منطقتنا لا تصلح لسير بني الآدميين، هي للسيارات والستوتات وللعربات التي تجرها الخيول، لذا فهي وحول في الشتاء متربة مغبرة في الصيف.
لكني أحاول انْ أحْلُم، فالأحلام هي ما تبقى لنا من حطام الطموحات، ذلك لأنها الشيء الوحيد المتاح في العراق اليوم، بعد أن تضاءلت الفرص في تحقيق الكثير من المشاريع. لهذا استيقظت باكراً، كانت السماء ثقيلة بالسحب القريبة والشمس لا أكاد أستدل على مكان لها، فهي خفيفة، نائية، مندثرة خلف اكمة الأشجار التي مددت لها بصري، قطرات من مطر خريفي تسقط على صفيح مرآب السيارة، صوت يشبه وقع خطى طفل يتعلم المشي، يتناهى لسمعي كلما دنوت من النافذة، أزحت الستارة قليلاً، وكمن لم يشاهد خريفا من قبل، هالني مشهد الأشجار وهي تورق خضراء لحظة بلحظة، وكمن داهمه عطر من ملايين الزجاجات، كانت رائحة الأرض قد فغمتني بعطرها.
يتحدث الناس في ابي الخصيب عن قرب جلوس المحافظ على كرسي القائم مقام في مسعى منه لإدارة القضاء من موقع أدنى، وليقف بنفسه على مشاكل السكان، وهو لعمري عمل مسؤول ومدروس بدقة، قلت لعله يستعين باهل الرأي والمشورة ويوقف تجريف النخيل وردم الانهار وأعمال البناء العشوائي التي لم يعد الصمت عليها من أعمال المحافظين، ثم قلت ولعله يعيد للناس املها في رؤية قراهم وأشجارهم عامرة تحفها الخضرة والمياه العذبة، وقواربهم تجوب الانهار غادية رائحة وأهلها الطيبون ينظرون له فرحين مستبشرين بقدومه. لكني، ومع باقة أحلامي التي لا أريد تكرارها فهي معروفة للجميع، وجدته جالساً على مكتب القائم مقام وحوله رجال ليسوا من ترابنا، لم يأكلوا من تمرنا، ولم يشربوا من مائنا، رجال أعرفهم ولا أعرفهم. لكني كنت أسمعهم يقولون له: نعم معالي المحافظ، لا، اطمئن، كل شيء تمام، الحياة ماشية، والناس بخير.
نطالع بين آونة وأخرى صورا لمسؤولين أوروبيين يستخدمون الدراجات الهوائية في وصولهم لمقار أعمالهم، وقد بدوا لنا أصحاء ممشوقين ونحيفين، وبدت الشوارع نظيفة، تلمع تحت المطر والضوء، أعمدة الكهرباء والتلغراف قديمة لكنها تتحدث عن زمن وتاريخ، كذلك كان البلاط وكانت الارصفة عريضة تسع المارة، طقس صباحي في المشي لصق الطبيعة يمارسه هؤلاء مع أبناء شعبهم، لا أحد يسقط شجرة ولا أحد يردم نهرا، والبحر نظيف كذلك السماء والجدران، لا بيارق متصارعة ولا شعارات تثير الانقسام ولا استقواء بعشيرة وحزب. أما مشهد الطلاب وهم ذاهبون لمدراسهم فهو من مشاهد بلوغ الانسانية عظميتها.
قلت : أنا أحلم، لم يأت المحافظ، ولم يجلس على كرسي القائم مقام، إذ الجرافات بسرفاتها الألف تروح وتغدو ولا أحد يوقفها، وما تبقى من النخل يسقط ولا أحد يسنده، وما ظل من الأنهار تردم ولا أحد يرفع التراب عنها، ورائحة الأرض نتنة، عفنة، تزكم الأنوف ذلك لأن الترع والجداول الصغيرة صارت مجاري لدورات المياه والحمامات وغسيل السيارات. لكن المطر الذي كان قطراً راح ينهمر بغزارة، ووقع خطى الطفل صارت حوافر خيول تعدو على صفيح المرآب، أثقلت القطرات النقية السعف وأغصان الرمان والتوت. لم اشأ ان أسدل الستارة، كنت مستمتعا بمنظر المطر وهو يشق التراب نازلا إلى النهر، والأشجار وهي تجثو صامتة إلا من وشوشة وحزن لم أستبينه. هل كانت الأشياء نائمة فأيقظها المطر الخريفي الباكر هذا؟
المحافظ وأحلامي الخريفية
[post-views]
نشر في: 28 أكتوبر, 2014: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
محمد توفيق
تجريف أراضي قضاء أبو الخصيب حتى الفاو واحدة من أكبر الجرائم البيئة التي عرفتها البصرة في ظل حكم الإسلام السياسي بعد 2003. القانون يمنع تجريف الأراضي الزراعية، لكنها تُجرّف رغم الأنوف لغرض السكن ، فليس من الصعب في بلد ينخره الفساد وتنعدم نوازع الضمير والو