انها اول مرة اطلع فيها عن قرب على عمل سفاراتنا، وفي الحقيقة (وهو امر لا يدعو للفخر)، فانني لم اتواصل مع وزارة الخارجية ابدا، وقد طلبت مرة واحدة عام ٢٠١١، لقاءا مع الوزير، فاشترط موظف العلاقات ان اسلمه"طلباً خطياً"لان البريد الالكتروني مرفوض في هذه الحالات، فسدّ نفسي، رغم انحيازي الكبير لخبرة السيد زيباري ولياقاته.
وعبر صدفة جميلة، وجدت"المدى"ترشحني لاسبوع عراقي في صربيا (يوغسلافيا السابقة)، اثر دعوة وجهها للمؤسسة، الدكتور فلاح عبد الحسن سفير العراق في بلغراد، الشاب المثابر الذي يعامل موظفيه كأصدقاء، ويأخذنا بسيارته المتواضعة في جولة تعريفية لرؤية ما تبقى من قلاع العثمانيين ومدافعهم على ضفاف الدانوب.
سفيرنا وهو استاذ للغة الروسية، قال انه يشعر للحظة بحرج، وهو ينظم اسبوعا ثقافيا للموسيقى والتاريخ والفن التشكيلي، بينما يمر العراق بمحنة رهيبة. لكنه وهو يفتتح فعاليات المهرجان في المسرح الوطني ببلغراد، تحدث عن انه لن يمل من ترديد ان الحرب مع داعش هي ازمة ثقافية قبل ان تكون مشكلة جيوش وصراعا على النفوذ. وهو يحدث ضيوفه الحاضرين عن عراق تعرض عبر التاريخ الى انتكاس واندثار لا يحصى، ولم يحتفظ بهويته الا عبر ألحان خالدة وتراث ادبي ضارب في القدم، ولمسات النحاتين البابليين القدماء وهي تجدد نفسها في مدرسة الفن الحديث، التي حضرت تلاوين منها ضمن اعمال الفنان حسين الجمعان، في معرض مشترك مع تشكيليين من صربيا.
وقد وجدت هذه الحقيقة صداها لدى السفراء العرب الذين حضروا الفعاليات بروح تضامن غير خافية، وخلال الاحاديث الجانبية معهم، كانوا يتشاركون معنا القلق بشأن موجة التشدد التي تجتاح المنطقة، وتلكؤنا المتواصل في مراجعة اخطاء السياسة.
وزراء واعضاء بارزون في البرلمان الصربي، قالوا لنا انهم يتابعون العراق منذ عقود كدولة باحثة عن الاسلحة وغارقة في الحروب، وفرصتهم الوحيدة في التعرف على"وجه اخر"لبغداد هو هذا الاسبوع الثقافي المنعقد بانتظام منذ خمسة سنوات، محملا بتراث اربيل وبابل والبصرة، التي قام"خشابتها"بإثارة حماس السائحين الاجانب، وهم يتجولون بايقاعات البحر العراقية، في شارع كينيزا ميخاييلوفا الذي شيده البورجوازيون الروس حين فروا من ثورة اكتوبر ١٩١٧، واصبح لاحقا الداون تاون التاريخي لعاصمة يوغسلافيا.
السفير يفتخر بانه ينظم اسبوعا للتعريف بالعراق، في نقطة تماس اوربية حاسمة بين نفوذ موسكو وواشنطن، دون ميزانية من الوزارة. فهو ينشئ شراكات مع المؤسسات الثقافية لتقاسم النفقات، ويقوم بالغاء"نفقات غير ضرورية"، وينجح في اقناع طاقم السفارة بوضع سياراتهم الشخصية وامكاناتهم، لتوفير متطلبات هذا الحدث الثقافي. وقد كان الموظفون بالفعل، منخرطين بفخر في هذا المهرجان، حتى ان زوجاتهم تطوعن لصناعة اطباق عراقية تقليدية، تذوقها الصقالبة والعجم، على هامش ندوة تعريفية بالاثار العراقية.
الضيوف العراقيون والاجانب، حضروا بكثافة لينصتوا ضمن الفعاليات، لحسناوات بلغراد من اعضاء فرقة الاوبرا الوطنية، اللاتي لم يكتفين بانشاد"موطني"بتلك اللكنة المحببة، بل شاركن الموسيقي عمر منير بشير، في الترنم بعيون التراث اللحني العراقي، فيما وقف الجمهور على قدميه مصفقا، لتناغم ايقاعي هائل حصل بين عازفي اوربا الشرقية، والموسيقي الشاب سعد علوان.
اما الحوارات التي اتيحت مع الجمهور الصربي، فلم تخل من طرافة، فبعضهم من محبي فلاديمير بوتين المتعاطفين مع صدام حسين، وهم غاضبون لان العراق اصبح"حليفا لاميركا!"دون ان يحيطوا علما بمدى الدفء الذي يجمعنا بموسكو وطهران. وكانت احداهن تسألني عن مدينة الناصرية، لان جدتها مهندسة الكهرباء عملت هناك قبل ثلاثين عاما، وبالمجمل فان كل الناس في بلغراد كانوا يعرفون اشخاصا من اهلهم او جيرانهم، عملوا في العراق خلال موسم دفء من لون اخر، غاب برموزه ودلالاته وطوى معه امالا عريضة سبق لبلغراد وبغداد ان تشاركتا الجهل بأنها احلام ترقد على اساس من الرمل.
بلغراد حين تغني للعراق
[post-views]
نشر في: 29 أكتوبر, 2014: 09:01 م