قبل تسعة وأربعين عاماً وفي طريق ذهابه إلى المدرسة وعلى مقربة من شاطئ نهر دجلة في مدينة العمارةتحسست يداهُ الطين وذهبت أصابعهُ تشكل منحوتات صغيرة وبريئة تخلقت بفعل عوامل الموهبة والرغبة وحب الاستكشاف. ولأن الحياة قطار مسافر يتوقف عند محطات الزمن ثم يع
قبل تسعة وأربعين عاماً وفي طريق ذهابه إلى المدرسة وعلى مقربة من شاطئ نهر دجلة في مدينة العمارة
تحسست يداهُ الطين وذهبت أصابعهُ تشكل منحوتات صغيرة وبريئة تخلقت بفعل عوامل الموهبة والرغبة وحب الاستكشاف. ولأن الحياة قطار مسافر يتوقف عند محطات الزمن ثم يعاود سيره..أكمل (أحمد فليح البياتي)دراسته الأولية ليحصل على شهادة دار المعلمين الابتدائية عام 1966.ولأن روح الفنان تواقة لخلق عوالمها، صقل موهبتهُ بالحصول على شهادات تدريبية بدرجة امتياز عال في الرسم والنحت والزخرفة والتحنيط عام 1972.لكن الدافع أقوى هذه المرة لبلوغِ ماهو أرقى..وكان سؤال الذات لدى الفنان الطامح وجوابهُ هناك،،عند منابع الفن الروماني ،فشدّ رحاله إلى إيطاليا،وتحصل على شهادة الليسانس العالي بدرجة امتياز من أكاديمية الفنون الجميلة/كرارا/إيطاليا عام 1982.ثم واصل مشواره البحثي والحرفي ليتحصل على شهادة الدبلوم بدرجة امتياز في الترميم الفني للنحت والبرونز والخشب/سينا/إيطاليا1983.
فترة إقامته الطويلة في مدينة كرارا الإيطالية ،اشتغل على نحت المرمر والكرانيت لتتحول نصبا ومنحوتات تتوسط الساحات العامة للمدينة ولتقرن روح الفنان الشرقي بحيوات الناس في تلك البلدة. ثم واصل مشواره الأكاديمي بالحصول على شهادة (التخصص العالي للدراسات العليا للتقنية الحديثة)في مجال النحت والخامات وأحجار الترافرتينو والمرمر والكرانيت والبرونز، وهذه المرة من فلورنسا مهبط الفن الإيطالي وعوالمه الساحرة،عام1984.
وبفضل هذه الاشتغالات التي خرجت من كونها مخططات ومنظورات،تحولت بيد الصانع الماهر إلى نصب وجداريا ت زينت مداخل المدن والمؤسسات هناك. كل هذا المنجز الفاعل والخاضع لاشتراطات التجربة للنحات أحمد البياتي الذي ركب مركبا صعبا في تعامله مع خامات صلدة وشديدة البأس ،لكن الحجارة الباردة لخامات المرمر والكرانيت والبرونز تحولت لديه قطعاَ نحتيةً معبرة جسدت أفكاره كفنان مخلص مجرب، تاركة أثرها الفني الذي لا ينمحي..من هنا وبتطور التجربة وبفعل باعه الطويل في هذا المجال، حاز لقب خبير فني للفنون التشكيلية.
اثنان وثلاثون معرضا هي حصيلة مشاركته في فترة هجرته الأولى إلى إيطاليا،مع فنانين عرب وأجانب توزعت على اكثر من مدينة(بيروجيا/أسيسي/فلورنسا/كاستل لانسا)
منتصف ثمانينيات القرن الماضي عاد إلى العراق ومارس دوره كفنان ونحات له حضوره في مجال عمله، هنا بدأت المخططات والدراسات لإقامة نصب كبير يتوسط المدينة التي أحبها [العمارة]..فبدأ بإنشاء ركائزه واكتمال القاعدة والعمل على توسعة فضاءاتهِ من حدائق ومتنزهات ومساحات خضراء..وتجسد نصبهُ/التمثال (الأم العراقية) أو(الماجدة)، بارتفاع وصل إلى (23)م،مما يجعله واحدا من أعلى النصب في المنطقة. واستعمل مادته الخام وكانت((حديد البليت))..!!المتوفر في الأسواق لكن السؤال المطروح يكمن في...كيف استطاعت يدا الفنان من ليّ هذه المادة الصلبة وتطويعها لتشكيل الهيئة الرئيسة للتمثال ومن ثم إبراز طيات الجسد لشكل المرأة التمثال،ومارافقه من عمليات لحامٍ، كل هذا العمل الشاق والعمل جارٍ على قدم وساق لاكتمال هذا العمل الحامل لرموزه العراقية التي لا يتسع الحديث عن دلالاتها هنا،مثل[الحمامة بيد المرأة]و[زهرة الدفلى]و[الفالة آلة الصيد]والكثير....
وتم له ذلك فأنجز النصب خريف عام 1991..
استمر النحات أحمد البياتي محاضرا لمادة الفنون التشكيلية في عدد من المعاهد في مدينة العمارة وأسس قسما للفخار والنحت في كلية المعلمين عام1994.معارضه الشخصية قاربت العشرين ،في الرسم والنحت والخزف والخامات الأخرى في إيطاليا وليبيا والأردن والعراق.
(عروس الربيع)هو آخر عمل نحتي من مادة الجبس تركه الفنان لطلبة قسم الفنون التشكيلية.
عام 2002 غادر العراق مرة أخرى إلى ليبيا وعمل محاضرا في معاهدها وعكف على أكثر من مخطط لمشروع نحتي وأنشأ دراسات عدة لتطوير الجانب السياحي والجمالي لمدينة العمارة ،لكن هذه الدراسات والمشاريع لم تلقَ آذانا صاغية أو ادنى اهتمام من المسؤولين المحليين، كذلك لم تلقَ استجابة أو رداً إيجابياً من لدن وزارة الثقافة..!!أو ممثلي التعليم العالي...
شتاء 2014،وبعد عودته إلى العراق وكانت الأخيرة. وبقدر حماسته المفرطة لبثّ روح الجمال لما يحيطه ونقاشاته المستفيضة لتطوير مفاصل المدينة وساحاتها ، لكن الأبواب قد أوصدت ولم يكن الآخر بذاك المستوى من إرادة الوعي لتنفيذ ما يجول بمخيلة الفنان. فبدأت صحتهُ بالتدهور شيئا فشيئا وبان الوهن على أصابع النحات الصانع الأمهر ليخفت وهج الإبداع فيها بعد ان طاوعت خامات الطبيعة لتعيد خلقها آثارا فنية مائزة كتبت خلودها..لينهار جسد احمد البياتي تحت الضربات الموجعة للجلطات الدماغية، ولتغادر روحهُ عالمنا إلى بارئها مساء الثالث عشر من شهر أيلول 2014 في مستشفى اليرموك ببغداد. وبذا انطوت صفحة مضيئة من صفحات الإبداع التشكيلي العراقي.