ما الذي يجعل فناناً ما مهماً ومؤثراً في عصره وفي عصور قادمة أيضاً ؟ قد يبدو الجواب على هذا السؤال بسيطاً، كأن نقول إن العمل الفني هو المعيار في ذلك . لكن في حقيقة الأمر هل يكفي ذلك للإجابة على مسألة تنطوي على التباسات كثيرة ، منها نظرتنا إلى الفن نفسه ، قيمته وتأثيره ووقت ظهوره وحتى انتشاره وكثرة مريديه ؟ فكرت بذلك أثناء زيارتي لمعرض الفنان الروسي كاسيمير مالفيتش (1878-1935) الذي أقامه متحف ستيدلك ميوزيام في أمستردام تحت عنوان كاسيمير مالفيتش والطليعية الروسية . هذا الفنان الذي حيّر خبراء الفن والفنانين والجمهور على حد سواء عندما عرض مربعه الأسود الشهير قبل مئة سنة ، لوحة مربعة مطلية باللون الأسود فقط لا غير وقد أعطاها عنواناً بسيطاً ومباشراً وهو (مربع أسود) ، هكذا كسر كل المحظورات قبل قرن من الزمان ودفع ليس بمغامرته التشكيلية وحدها إلى أبعد الحدود ، بل رمى حجرا كبيرا في بركة الفن الراكدة، بحيث تخطى الفن التجريدي والفن البصري أيضاً بخطوته الفريدة تلك .
أصبح ماليفيتش أيقونة الفن الطليعي من خلال رؤيته الفنية التي ترجمها إلى أشكال لم يفكر بها أحد ولم يجرؤ غيره على اعتبارها أعمالا فنية مؤثرة، مثل عمله الشهير "مربع أبيض" وعمله الآخر "مربع أسود" وكذلك أعماله التجريدية الهندسية وحتى أعماله التشخيصية ذات الأسلوب الفريد والألوان الصريحة ، ثم هناك أعماله التي سبق فيها البوب آرت الأمريكي بأكثر من أربعين عاماً كعمله الشهير ( رجل إنكليزي في موسكو) الذي رسمه سنة 1914 وفيه كل مواصفات البوب آرت .
كيف اهتدى رسامنا المدهش هذا إلى كل ذلك رغم عزلة روسيا نسبياً وقتها عن التطورات الحديثة في الفن مقارنة بباريس ؟ الجواب يأتينا من بوابة متحف ستيدلك الذي عرض بين ثنايا قاعاته معرضاً كبيراً ومهماً يحتوي على أجمل وأهم أعمال الفنان الفذ الذي أصبح أسطورة روسيا والعالم في مجال الفن التشكيلي ، وقد بذل المتحف جهوداً استثنائية في جمع أهم مجموعتين شخصيتين لأعمال هذا الفنان في معرض واحد ، الأولى تعود إلى جورج كوستاكيس والثانية ترجع لنيكولاي خاردجيف الذي عرف عنه في فترة ما بانه جامع اللوحات المنسية في فترة ستالين والذي كتب عنه ذات مرة ماليفيتش في رسالة إلى صديقه إيفان كليون (التقيت هذا اليوم بخاردجيف الذي جاءني من موسكو. إنه كاتب شاب يستطيع في لمح البصر أن يحدثك عن المستقبل )، وهذا يثبت العلاقة بينهما ويؤكد شغف وقرب جامع اللوحات من الفنان وأعماله .
هذا الفنان المولود قرب مدينة كييف من أبويين من أصل بولندي سنحت له أول فرصة لعرض أعماله خارج الوطن سنة 1927 في وارشو وبعدها في برلين وقد شجعه على الخروج بأعماله شعوره بأن ستالين الذي تسلم زمام السلطة قد بدأ بتضييق الخناق على الفن الطليعي ، وهكذا سافر ليتعرف بعدها على الباوهاوس وفناني أوروبا أيضاً الذين اعتبروا أعماله وشخصيته الفنية من أهم ركائز تغيير الفن في شرق أوروبا منذ أعماله التكعيبية مروراً بكل أفكاره وتقنياته التجديدية التي سبق فيها معاصريه، وانتهاءً بالوجوه الروسية المبتسمة .
هكذا أتجول وأتطلع لأعماله في هذا المعرض ، أعماله التي أمسك فيها عصا الحداثة منذ زمن بعيد وأشار إلى تغييرات جوهرية في رؤية وصناعة العمل الفني هو الذي رسم بكل الأساليب تقريباً قبل أن ينتهي به المطاف في نهاية حياته إلى نوع من العزلة حيث تفرغ لرسم مجموعة من البورتريهات كان الكثير منها يمثل صورته الشخصية ، مثل البورتريت الذي رسمه لنفسه وهو يعتمر طاقية حمراء وكأنه أراد أن يلوّح من بعيد أو يشير بهذا اللون إلى منابعه الروسية.
أيقونة روسيا
[post-views]
نشر في: 31 أكتوبر, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...