2
بغداد 2006
كنت امرأة تجازف كل برهة وتراوغ موتها ، أتجول بين الوحوش البشرية التي ترفع سيوفها الصدئة، تحزّ بها رقاب الخارجين على الخرافة والذاهبين إلى سلطة العقل. ألوذ بالموسيقى فلا أسمع رصاصهم وصرخات الهلع ولا أكتفي بمغامرة العيش بين القاتل والقاتل إنما أضيء لحظتي بوعي ما يجري وما سيجيء، أقطف لحظات تأمل تنتشلني من رجفة الرعب وكوابيسي وأكشف صورة الوحش المتربص بنا، المتربص بي والمتشهي قطف رؤوسنا.
وحدي أطوي المسافة بين موتي الوشيك وموتي المؤجل بمحض مصادفة ويحرسني سر الموسيقى ، تأتي الكلاب الضالة إلى حديقة بيتي بأشلاء الضحايا فأجد ذراع امرأة وكف طفل وأسمع استغاثات مروعة وأرى مصيرنا موكولا لقاتل وكلب وغراب.
لا شيء أشد توحشا من وحدة امرأة في بلاد القتل والسبي والمقابر، لا أرى في وحدتي أحدا غير صورتي تتكرر في المرايا ، وغير ملامحي تتغضن وتذوي حين لا تؤكدها نظرة الآخر، ولا تنال من التأويلات والتساؤلات ما يخفف هلع القلب ويرجئ خطوة الموت، أولادي كلٌّ في بلد، وأنا أتشبث ببقائي في بغداد وامتزاج رمادي برمادها ، أدير مجلة "هلا" الثقافية واكتب فصولا من روايتي وأحلم بسلام ترتجيه أرواحنا كل غروب فتفجعنا سيول الدم لدى كل شروق وتروعنا صرخة والدة ملتاعة بولد مخطوف أو اغتصاب صبية يافعة.
في وحدتي أعيش بين الموت و"الأنا" المكابرة التي تمارس الإنكار وتدعي شجاعة لايملكها سوى المنتحرين ، فحين لا يعود أحدنا قادرا على رؤية وجه الآخر أو سماع نبرته أو تلمّس حنانه ، عندئذ، ينكفئ كلُ واحد مناّ على وحوشه الشخصية تلتهمه ويلتهمها ويرسل أيّ آخر إلى الجحيم.
أغامر كمجنونة بالعيش وسط حدائق الموت المزدهرة بجثث مجهولة ورؤوس مقطوعة وصمت يمارسه جيلي من المثقفين والكتاب تقية أو خوفا وانسحابا ، بينما تتصاعد نبرة التجهيل والتحريم وإهدار الدم ، إنها لمجازفة عبثية أن أحيا وسط المجزرة وإنه الجنون ولا مفر ، بيتي محاط بحشود المتطرفين وهجمات المتعصبين الساعين لفرض ثقافة واحدة على شعب متشابك الأعراق والثقافات، أسمع عويل الرجال الجارح في المساء ، حيث أقدم المتطرفون المتوحشون على قطع سيقان ثلاثة شبان لارتدائهم الشورتات بحكم عملهم مدربين في مسبح ( الرشيد) في حيـّنا المشتعل، يطوقني نحيب البنات اللائي قتلت زميلاتهن في الحافلة الصغيرة وهن عائدات من عملهن في أحد البنوك مكشوفات الرؤوس بلا حجاب، أطلق الملثمون نيران رشاشاتهم عليهن ثم عمدوا إلى قطع رؤوس ثلاثة منهن ودحرجوها على رصيف شارع العامرية ، يتضاعف رعبي وسط الصراع وتحاصرني خطى القتلة ليلا و تهديدات مجهولين تنذرني بقطع الرأس إن واصلت الخروج إلى عملي ونشر كتاباتي.
وكمثل كدحي اليوم في تيه الغربة، كنت أكدح في نهارات القتل من أجل رغيف خبز و بضعة لترات من نفط أو عشرة لترات من البنزين لتشغيل مولدة الكهرباء، ترافقني كل ليلة شخوص روايتي وتؤازرني بضعفها وبسالتها وأنا أنتظر الموت قتلا على الهوية وأتساءل: ترى على أية هوية سأُقتل؟ امرأة أو كاتبة أو علمانية أو ما لا أدريه من التصنيفات؟
..يحدث صدع في الزمن فتتفتح زهور الحديقة بشائرَ ربيع واعدٍ بالأمل وتشكل مع الموسيقى خلفية الحياة الحلمية الداعمة لروحي المستوحدة فتدوزن الموسيقى والنباتات بقائي وسط متاهة الموت وأفكر: لو لم أكن كاتبة لكنت أصبحت عازفة كمان أرعى وجودي بأصواتٍ سماوية وأشتبك مع الكون والزمن لأغادر أرض الرعب إلى ترنيمات وأغنيات حب وأعزز إنسانيتي بحلمٍ ورؤيا.
يتبع
يوميات الهلع والموسيقى مقاطع من كتاب "الحرب والمنفى"
[post-views]
نشر في: 1 نوفمبر, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...