TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الشاعر وقارئه

الشاعر وقارئه

نشر في: 2 نوفمبر, 2014: 09:01 م

هل علاقة الشاعر مع اللغة استثنائية؟ وهل قارئه بالتالي قارئ استثنائي؟
هذا التساؤل مطلعُ متاهةٍ في الشعر الحديث كمْ ضلّت فيها الخطى. ولكنه مطلع بداهة أيضاً، قد لا تتوفر إلا عند قلة ممن لا تَغيمُ البداهةُ عن وعي علاقتهم مع النفس، والآخر، والحياة.
حين يقول الشاعر إن "ألسنة النيران أبداً تلِغُ الخنادقَ المهجورة"، إنما يلقي جملة بلغت غايتها في إرباك اللغة السوية، والمخيلة السوية، والمنطق السوي. وحدها العاطفة المستثارة تتقبلها برضى. لأن العاطفة غامضة بطبيعتها.
هناك طريقةٌ مختلفة يعمد إليها الشاعر لا تربك اللغة، ولا المخيلة ولا المنطق. يضع صياغةً سوية بكل معنى الكلمة لا تتجاوز جملةً مثل: "ذهب محمدٌ إلى السوق واشترى برتقالةً. ذهبتُ إلى السوق فافتقدتهما." ولكنها صياغة محيّرة، لا تقل إثارة للعاطفة الغامضة عن الجملة السابقة. والشعراء الجيدون يُحسنون الطريقتين عن وعي. وعن وعي قال أحد المتصوفة بأن العبارة كلما ضاقت اتسعت رؤيتُها.
في الحكاية، والقصة، والحوار المسرحي... لا يحتاج الكاتب إلى إرباك في اللغة، وما تنطوي عليه من مخيلة ومنطق. إذا احتاج إلى إرباك ففي عناصر الحركة الكامنة في الزمان والمكان والشخوص. وهو إرباك، إذا حدث، لن يُطفئ حماسة القارئ في ملاحقة الحكاية. فالإرباكُ هنا يبدو أفقياً، رحباً، مرئياً على مدى البصر. في حين يبدو الإرباك الذي يقتصر على اللغة ومخيلتها ومنطقها عمودياً.
في هذا الفارق يكمن الدافعُ وراء كثرة جمهور القصة، وقلة جمهور الشعر. وهي محصلة طبيعية تذكرني بالفارق بين جمهور لعبة كرة القدم، وجمهور لعبة الشطرنج. ففي الأولى دراما أفقية بالغة الحيوية مشروطة بعناصر الشخوص والزمان والمكان. وفي الثانية دراما عمودية بين مفردات رمزية (تُشبه مفردات اللغة) تمثلها البيادق. ولعل هذا الفارق يقرب لنا أكثر علّةَ الكثرة في جمهور الأولى والقلةِ في جمهور الثانية.
من الضروري أن أوضح بأنني هنا لا أولّد معيارَ قيمة من هذه المقاربة. فليس المقصود أن يكون الشطرنج أرفع مستوى من كرة القدم، ولا الشعر أرفع من الرواية. المقصود إيضاحي، يُقرب علّةَ هذه الندرة العددية في الجمهور التي خُص بها الشعر.
والآن نقع في أول شرك من المتاهة. لأن هناك من سيقول بطُمأْنينةٍ إن التراثَ العربي والتراثَ الانساني يُبلغنا دائماً عن سعة انتشار الشعر بين الناس. وهو معتقد يحتاج إلى احتراس. صحيح أنني أقتصر، بشأن هذه الصفة الشعرية، على القصيدة الحديثة التي ورثت القصيدة التقليدية وتجاوزتها، ولكن رؤيتي تتسع للشعر عامة.
كان الشعر في البدء توأم الموسيقى، وقرين الأغنية. ولدى العرب قبل التدوين، يُتناقل على شفاه الرواة. ولكن كم كان عدد الرواة الذين نعرف؟ وحين جاء عصر التدوين والاستنساخ والمكتبات في بيوت الخلفاء والأمراء وأصحاب الشأن، لنا أن نتساءل: كمْ تُرى كان عدد النسخ من كلَ ديوان شعر؟ وكم عدد مقتني هذه النسخ، أو عدد القادرين على الاطلاع عليها، والتمتع بأشعارها. كل ما وردنا من روايات في كتب الأدب حول كتابة الشعر، وإنشاده، وروايته، تدور في حلقات المثقفين الضيقة، أو حلقات المتنفذين الأكثر ضيقاً. فمن أين جاءت فكرة جمهور الشعر هذه؟
اليوم، حين تحتشد قاعات الشعر بالجماهير، فلدافع يتجاوز الشعر بمدى لا محدود. حماسة جاهزة باتجاه النجم، أو حماسة جاهزة باتجاه الشعار. من يجرؤ على قراءة القصيدة، التي قاربتُها بلعبة الشطرنج، عادةً ما يترك المنصةَ كسيراً، خائباً، ولا يتّعظ! الجماهيرُ غير مذنبة في هذا. الشاعر الجيد لا يسعى إليهم متفضلاً، ثم مُستَفزّاً، ثم متعالياً رافضاً. عليه أن يحتكم إلى البديهة: الجمهور الواسع يحتاج إلى أغنية تُرخي أعصابه، لا إلى لعبة شطرنج تُربكها وتثيرها. أذكر في أحد مرابد العراق صعد المنبر شاعر تونسي مُلتبس، وبحماسة أعلن في أحد الأبيات بأنه: "جاءهم شاعراً عدمياً." فضجت القاعة بالتصفيق والهتاف. فبهت المسكين على الأثر لهذا الحماس المفاجئ لعدميته.
الجمهور أرادها "شاعراً عربياً" فسمعها كذلك، وصفق لما أراد وسمع.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram