TOP

جريدة المدى > سينما > حاتم حسين.. استذكار متأخر

حاتم حسين.. استذكار متأخر

نشر في: 5 نوفمبر, 2014: 09:01 م

لعلّ الصورة التي تخطر في بال كل من يقرر الكتابه عن شيخ مصوري السينما العراقية حاتم حسين ، هي صورة فنان خجول صامت ، لاتفارق الحيرة وجهه  ، ليس هذا من قبيل المبالغة ، فالصور التي تبقى في الذاكرة أكثـر من غيرها من بين آلاف الصور التي ملأ بها  

لعلّ الصورة التي تخطر في بال كل من يقرر الكتابه عن شيخ مصوري السينما العراقية حاتم حسين ، هي صورة فنان خجول صامت ، لاتفارق الحيرة وجهه  ، ليس هذا من قبيل المبالغة ، فالصور التي تبقى في الذاكرة أكثـر من غيرها من بين آلاف الصور التي ملأ بها  حاتم حسين  الشاشة هي صورة الحائرين ، تقاطيع وجه خليل شوقي في (الظامئون)، اللقطات الصامته لمقداد عبد الرضا في (المسافر) ، في اللقطة الافتتاحية لبيوت من ذلك الزقاق ، وسعدية الزيدي حائرة  في مواجهة  المجهول ،  اللقطة الاخيرة في الاسوار التي يعاد فيها مشهد سامي عبد الحميد وحركة الكاميرا تلاحق وجهه الحائر وهو يسقط ميتا   .. ثم نشاهد الكاميرا تتحرك ببطء  عابرة ازقة بغداد التي تعيش خارج الحياة ..كان ابطال " كاميرا " حاتم حسين حائرين دائما ، ولكنهم يحلمون ويحاولون العيش ، وتبدو احلامهم في نهاية الامر اشبه بالمعجزة .  
الذين يعرفون حاتم حسين جيدا سيقولون حتما، ان حياته نفسها شبيهة بالكثير من اللقطات التي اجاد صناعتها على الشاشة البيضاء ، الى درجة تثير التساؤل عن الارتباط الوثيق بين حياة حاتم حسين والسينما التي عشقها ونذر لها حياته .
وأعتقد ان هذا السؤال هو الذي يمكن ان يكون مدخلا للحديث عن هذا الانسان والفنان.. فاستعادة للكيفية التي امتزجت بها حياة حاتم حسين بالسينما ذلك الامتزاج اليومي ، وكيف كان هذا المصور الفنان حتى في تفاصيل حياته وأحاديثه اليومية يستعين فيها بحكايات السينما والصور المستقاة من الافلام التي يحبها لتوضيح مايريد قوله ، كل هذا اذا اضفناه الى ما يعرفه اصدقاء الراحل من انه كان ينفق معظم ساعات نهاره وليله في مشاريع " فوتوغرافية وسينمائية " وفي مشاهدة الافلام والمقارنة بينها الى درجة تجعله يشاهد لقطات معينة في بعض الافلام مرات عدة في اليوم ، يمكننا ان ندرك كيف ان الشخصيات التي تظهر من خلال كاميرته السينمائية إنما هي وجوه متعددة لأحلام ومشاريع لم تتسع لها الحياة بضيقها ومشاغلها ان تتحقق.
لقد اختلطت الحياة بالسينما لدى حاتم حسين بشكل جعل كل حياته تبدو كأنها انعكاس لعشقه لهذا الفن ، وعمله في مجال التصوير السينمائي يبدو كأنه انعكاس لبحثه الدؤوب عن تفاصيل الحياة واحتفاله بها ، والذين عرفوا حاتم حسين جيدا يعرفون انه كان يحب هذه التفاصيل بقدر ما كان يحب التصوير السينمائي.
***
ولد حاتم حسين عام 1937، لكن نشأته الثقافية والفنية بدأت في عقد الستينيات التي تعد من أزهى مراحل الثقافة العراقية ، لافي الفنون فحسب بل في كل فروع المعرفة والأدب والسينما والمسرح والتشكيل والموسيقى والصحافة والترجمة والتعليم و الموروث الشعبي والمتاحف والنشاط اليومي ، كلها كانت مؤشرات على غنى تلك الفترة حيث دور العرض السينمائي تقدم أحدث الأفلام العالمية ، ونشط المثقفون يتكتلون في جماعات ولا يمر أسبوع دون معرض تشكيلي تجد فيه أحدث الأساليب والرؤى،صحافة ثقافية فعالة تكتظ بالحوار والسؤال والجديد، مطبوعات عربية كتب ودوريات تصل من مصر ولبنان وسوريا في مواعيدها ،مسرح نشط يجدد دمه بالخريجين والهواة، ، روائيون وشعراء ومسرحيون ونقاد تضج بهم صفحات الصحف والمقاهي الأدبية والتجمعات الثقافية ، عروض موسيقية وراقصة مراكز ثقافية أجنبية لعبت دورا في الوعي الثقافي وأخص بالذكر منها المركز الثقافي السوفيتي الذي كان مقره في شارع ابو نؤاس والمركز الثقافي البريطاني في الوزيرية كل ذلك مع صعود ما عرف بجيل الستينيات المتنوع الاهتمامات والتي كانت السينما جزءاً مهماً ورئيسياً من اهتماماته . 
في تلك الايام الحافلة بالحياة والضوء والمتعة ذهب عاشق الكاميرا حاتم حسين في بعثة الى موسكو عام 1962 ليلتحق بمعهد السينما العالي في موسكو دارسا فن التصوير السينمائي ليعود الى بغداد عام 1968 ، وهو يحمل شهادة دبلوم عال بامتياز متشبعا بما شاهده وقرأه عن الواقعية في الفن ، وعن الموجة الجديدة في السينما السوفيتية التي كان ابرز مبدعيها ايزنشتاين وميخائل روم وبندر تشوك وتاركوفسكي والعديد من الاسماء ، ويذكر في حوار كنت قد أجريته معه في الثمانينات ونشر في مجلة الثقافة، وكانت من المرات النادرة التي يتحدث فيها حاتم حسين الى الصحافة ، ففي ارشيفه الفني لانجد سوى حوارات تعد على اصابع اليد ، في ذلك الحوار اخبرني ان " حبه للسينما التسجيلية جاء بعد مشاهدته في موسكو لفيلم ميخائيل روم التسجيلي الهائل " فاشية عادية " الذي قدم فيه المخرج الكبير تعليقا صوتيا على لقطات ارشيفية ألمانية منتقاة تسجل الحياة العادية للجنود الالمان في فترة صعود النازية ، في محاولة للاجابة عن سؤال لماذا الحرب ؟" ، ويضيف حاتم حسين " ان هذا الفيلم شده الى الوثيقة السينمائية وكان يطمح لأن يقدم عددا من الافلام الوثائقية التي تتناول الواقع العراقي بطبيعته " ، وما ان يعود من موسكو حتى كان في جعبته عدد من المشاريع لأفلام تسجيلية التي نفذ بعضا منها وحازت جائزة مهرجان بغداد السينمائي عام 1975 . 
يقول حاتم حسين إنه في موسكو كان يخطط لإخراج فيلم وثائقي عن حضارة العراق وتشاء الصدف ان يعمل مصورا لأحد الطلبة العراقيين في فيلم بعنوان كلكامش .وقد اثار التصوير المتقن للفيلم اهتمام اساتذته في المعهد الذين طلبوا منه العمل في افلام عدد من الطلبة ، فكان ان ساهم بكاميرته في العديد من الافلام التي كانت مشاريع تخرج لزملائه الطلبة .. وقد ساعده ذلك في الحصول على درجة امتياز من المعهد السينمائي الشهير ، وحين يعود حاتم حسين من موسكو يضع نصب عينيه السينما التسجيلية والوثائقية محاولا مع زملاء له تأسيس تيار جديد من الافلام التسجيلية التي ستفرض حضورها خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات وتضع العراق على خارطة السينما التسجيلية الجادة في العالم .. صحيح ان التصوير السينمائي الروائي سوف يستنزف من جهود حاتم حسين في تقديم افلام تسجيلية جديدة وصحيح ان ابرز رموز السينما التسجيلية في العراق سوف يسلكون طريق السينما الروائية او العمل في التلفزيون ، ومع هذا فان الانطلاقة التي سيمثلها عدد من الافلام التسجيلية التي كان لكاميرا حاتم حسين دور فيها مثل " نفطنا لنا " الولادة " " اغنية عمل عراقية " " فلسطين ماذا قدمت الآن " الكابوس " " قصب السكر " " أغنية الحضارة السومرية ، سوف تظل راسخة الى النهاية .
في تلك الافلام استطاع حاتم حسين ان يلفت الانظار اليه من خلال كاميرا اراد لها ان تعيد للصورة السينمائية الحية ألقها .
" كان تفكيري ينصبّ آنذاك ولايزال في تقديم صورة تحمل سمات الواقع وتجعل الكاميرا تنطلق خارج الاستوديوهات الضيقة لاكتساب هذه الأفلام مظهر الصدق والواقعية وهو هدف من اهداف الفيلم التسجيلي " صحيفة الجمهورية 1989 . 
يكتب فلليني في "كيف تصنع فيلما" عن المصور الذكي الذي : "يرى بعين مختلفة كل شيء"، هذه الجملة تنطبق على حاتم حسين الموهوب حسب شهادة أستاذه عبد اللطيف صالح مدير تصوير فيلم الظامئون ، ففي الندوة التي اقامتها مجلة سينما ومسرح العراقية لفيلم الظامئون والتي نشرت عام 1973 يخبرنا عبد اللطيف صالح ان المصور حاتم حسين كان حريصا على ان يقدم لقطات متميزة ومغايرة عن المألوف ، وهذا ما تطلب منه ان يوقف التصوير لمدة اسبوعين من اجل ان يجري بعض التحويرات على ستاند الكاميرا وايضا على العدسات ، ويضيف صالح في شهادته ان حاتم حسين ظل يتردد يوميا على محال " التورنجية " في شارع الشيخ عمر من اجل ايجاد طريقة تسهل له تصوير مشهد البئر وقد استطاع بمساعدة احد " التورنجية " من تصنيع استاند يسهل عمل المصور في هذا المشهد .. ويكتب المخرج المعروف صلاح ابو سيف في تقييمه لفيلم الظامئون في مقال بعنوان رأيان في السينما العراقية " بالنسبة لفيلم الظامئون لم اشعر بمشكلة الفيلم الذي يتناول ازمة مياه في بلد يوجد فيه نهران عظيمان ، ولكني توقفت عند الصورة في الفيلم ، لأنها كانت متميزة وتؤكد على ان المخرج ومعه مساعدوه كانوا فنانين مجتهدين " 
***
نتذكر حاتم حسين بهدوئه وطيبته .. وبوقفته الاثيرة وراء الكامير ا ، بعينيه اليقظتين دوما والتي تذكرنا بسحر المشهد السينمائي وبحبه لفنه ولكل من يعمل معه ، فنان وانسان ينتمي الى نوع من المهرة الذين لايملكون فقط قدرة احترافية على تصوير الافلام ، وانما قدرة على استخدام وسائل التعبير في إثراء العمل الفني .
يكتب تاركوفسكي : ". الفن يكون واقعيا حين يجاهد ليعبّر عن المثال الأخلاقي. الواقعية تناضل من أجل الحقيقة، والحقيقة جميلة دائما.. الجمالي هنا يتزامن مع الأخلاقي.
ولعلّ سيرة حاتم حسين تكشف لنا أنّ الأخلاقي ظل متزامنا مع المبدع منذ اليوم الأول الذي قرر فيه أن يدخل عالم السينما الساحر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية

السينما كفن كافكاوي

مهرجان الجونة السينمائي يعلن عن مواعيد دورته الثامنة

مقالات ذات صلة

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية
سينما

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية

متابعة المدىوديفيد كيث لينش صانع أفلام وفنان تشكيلي وموسيقي وممثل أمريكي. نال استحسانًا لأفلامه، والتي غالبًا ما تتميز بصفاتها السريالية الشبيهة بالأحلام. في مسيرة مهنية امتدت لأكثر من خمسين عامًا، حصل على العديد من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram