عاش جورج جرداق حياته مثل برنامجه الإذاعي الشهير"على طريقتي"فالشاعر الذي خصته أم كلثوم بمحبة وتقدير وعشقت أشعاره وغنـَّت له إحدى الروائع"هذه ليلتي"هو نفسه صاحب أكبر موسوعة عن الإمام علي بن أبي طالب التي بيع منها ملايين النسخ، وهو لا غيره صاحب الزاوية الأسبوعية في مجلة الشبكة "على الصنارة" التي كان يروي فيها ليالي الأُنس في لبنان أيام كانت بيروت فينيسيا الشرق ، وأتذكر أنني في صباي كنت مغرماً بقراءة هذه الزاوية لاتابع مع كاتبها واسلوبه الساحر خفايا الليل وأسرار الحسان وحكايات"طروب"التي كانت أشهر مطربات لبنان ، وسهرات فريد الأطرش التي دائما ما تنتهي في ردهة الأمراض القلبية .
في كتابه"حكايتي مع أم كلثوم"يروي الصحفي اللبناني جورج إبراهيم الخوري أن أم كلثوم كانت معجبة إعجاباً شديدا بقصائد جورج جرداق.. وذات ليلة دعت الشاعر إلى سهرة في منزلها حضرها محمد عبد الوهاب وطلبت من جرداق أن يقرأ شيئاً من شعره فقرأ، فكانت تصفق وتقول"هذا شعر كبير" ثم التفتت إليه وقالت:"اترك الكتابة في الصحف وانصرف إلى الشعر. الكُتَّاب كثر أما الشعراء فقلّة"، ثم قدمت عرضا مغريا:" إني مستعدة لأن أهيئ لك كل الظروف الملائمة إذا أنت قررت الانصراف إلى كتابة ملحمة شعرية على غرار ما سمعته منك"، ويرفض جرداق العرض ،فهو لا يستطيع أن يغادر ناصية مجلة الجمهور ولا يترك صنارة الشبكة لأحد غيره ممن لا يعرفون شيئا عن لون وطعم ليالي الانس في لبنان،لكنه يعود بعد عامين ليقرأ لها أبياتاً من قصيدة"هذه ليلتي":
هذه ليلتي وحُلم حياتي بين ماضٍ من الزمان وآتِ
الهوى أنت كله والأماني فاملأ الكأس بالغرام وهاتِ
في الثامنة عشرة من عمره يكتب جرداق كتابا عن فاغنر والمرأة فيُثير الانتباه إليه حين يقرر وزير المعارف المصري آنذاك طه حسين إدراجه على لائحة المقررات في الجامعة المصرية، إلا أن نقطة التحول في حياة جرداق تبدأ حين يهديه أخوه الأكبر نسخة من كتاب نهج البلاغة، فيسحره الكتاب أسلوباً ومعنى ومواقف فيقرر وهو المسيحي القادم من إحدى قرى الجنوب أن يكتب أضخم موسوعة عن الإمام علي بن أبي طالب ُطبع منها عشرات الطبعات.
والطريف أنّ جورج جرداق أثناء مشاركته في مؤتمر الأدباء العرب في بغداد عام 1966 انه يبحث عن موسوعته فقد قيل له إن لها طبعة بالأوفسيت صدرت عن مكتبة المثنى نفسها ، ويقول: ذهبت الى المكتبة فوجدت شابا لطيفا استقبلني بترحاب فتوقعت انه يعرفني، وحين سألته عن الكتاب ابتسم وقال: هل من المعقول وأنت من لبنان بلد المؤلف تبحث عن نسخة في بغداد، وأصرّ على أن يعمل لي خصماً فبدلا من الخمسة دنانير سعر الكتاب دفعت له أربعة فقط"ويضيف جرداق:إن لطف الشاب وأريحيته منعاه من ان يخبره إنه مؤلف الكتاب!
يكتب جورج جرداق عن الأسباب التي دفعت به إلى كتابة موسوعته هذه قائلا: بعد أن ضاقت بنا سُبل التقدم والرفاهية والاستقرار ، ويفتك بعضنا بالآخر، والناس أشبه بقطعان أغنام لهذا الحاكم أو ذاك، ارتأيت أن أكتب شيئاً عن ذلك وطبعاً كنت قد قرأت علياً عليه السلام وعشته وتأثرت به فوجدته صاحب ثورة إنسانية واجتماعية وفكرية وثقافية، فكان لزاماً عليّ أن أسلـِّط الضوء على هذا الفكر النقي الذي أنار لي الدرب والطريق.."
يغيب جورج جرداق، لكن كلماته تبقى، ونتذكره ونحن نعيش في مناخ الكذب والنفاق والانتهازية مع ساسة يزهقون الأرواح ويخرّبون الأوطان ويحرمون ليالينا من ان تضاء بالفرح والاحلام، توحشوا واصبحوا ذئابا للطائفية ونسوا ان الامام علي لم يكن طائفة، بل كان ومايزال أمة للمستضعفين السائرين على طريق العدل والحب والتسامح.
مــن ســرق ليالينــا؟
[post-views]
نشر في: 7 نوفمبر, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 3
بغداد
كتبت مجلة الطليعة المصرية أبريل عام ١٩٦٥ مقالاً طويلا عن الكتاب الذي كتبه جورج جرداق علي والعدالة انقل منه هذا المقتطف. يرى المؤلف في المقدمة الأدبية الرائعة التي قدمبها كتابه، أنّ في تاريخ الشرق، كما هي الحال في تاريخ البشر جميعاً، غزاة ومجرمين وأغبياء و
رمزي الحيدر
أتمنى من البرلمان العراقي أن كل جلسة لهم أن يقرأون إحدى مقالاتك ،من أجل تذكيرهم إننا جزأ من الحضارة الانسانية المتمدنة ولا مكان لِتجار الدين ،التخلف ، الطائفية ،................. ......................................... ............................ألخ
داخل السومري
هذه ليلتي وحلم حياتي بين ماض من الزمان وآت, ما اجمل قولك هذا يا جورج جرداق وما اصيب ان تصب جهدك لتخرج مؤلفا ضخما عن امام المستضعفين في الارض علي . وأعلم يا جرداق نحن كعراقيين اصبحت ليالينا بلا احلام وماضينا كحاضرنا وبلدنا اصبح مستباحا منذ الغزو الاعرابي.