3
يكتب نيكوس كازانتاكي في كتابه ( الحديقة الصخرية ):
احفرْ عميقا ، أكثر ، ما الذي تراه ؟؟ ( لا أرى شيئا ، ليلٌ ساكنٌ كثيف كالموت ، لابد أنه الموت) ، احفرْ عميقا أكثر، وأكثر .. ( آه لا أستطيع اختراق الحاجز المظلم ، أسمعُ أصواتاً وبكاءً ، أسمعُ خفقَ أجنحةٍ على الشاطئ الآخر) ،لاتبكِ، لاتبكِ، إنها ليست على الشاطئ الآخر ، الأصوات والأجنحة والبكاء هي قلبك أنت.
قلبي الذي يحدس أبعد مما يدعي العقل كان يرتعش وهو يستعيد كازانتاكيس وأنا أحثه على الثبات وتحفيز الإرادة : استنهض قوتك ،لاتبكِ، إصمد ، إغتذِ على الأحلام بعيدة المنال، تسلح بالرؤيا واسترجع مجازفات الصبا في البساتين وضفاف الأنهار، كان نهر ديالى يناديني، أهرع إليه فيعانقني أنين الصفصاف وأغاني الغجر، تستنجد بي شجرة السدر حين احتضار أوراقها وكنت أطارد القنافذ وجراء الثعالب و أعايش الحياة و الموت كل آن في الطبيعة وأتعرف إليهما في هلاك الفراشات أو حين تنقف فراخ الطيور بيوضها، لاتنصت ياقلبي إلى نحيبي ، أنا المرأة الخوافة التي دجنتها المدينة فشحبت روحها ، تذكّر أنك قلب تلك الفتاة البرّية التي لطالما غامرت بين الحقول والجداول ونبات العليق وأعشاش اللقالق والزوارق وتاهت بين خيام الغجر وآثار أشنونا السومرية وصحبت الجدات راويات الحكايا.
كل مساء تتسلل نسائي الوحيدات المتشحات بالسواد من ثنايا كتبي ويهرعن لحضور مجالس العزاء المقامة لتأبين الفتيات والشبان المغدورين ، بينما تتعثر بنات قصصي بالموت والعبوات الناسفة وتتساقط فوقهن أزهار الآس والدفلى فتموج في أحداقهن صورعشاقهن الذين التهمتهم الحروب ويرتعشن توقا للمسة أو عناق، أغادر كل أولئك النساء المنتحبات والفتيات المشتبكات بأحلام العشق وأرقد خائفة في متاهة الليل ،ساعتان أقطفهما من تقاويم الأمل لأغفو تحاصرني دمدمة الرصاص ويطرق الموتُ نوافذي ، ساعتان أعوم فيهما بين الكوابيس وعبوري المتوقع من رواق الدموع الى سلام الضحايا.
الساعة الواحدة بعد انتصاف الليل
نوم مضطرب يفتقر إلى متعة الهجوع الآمن، هو أقرب إلى الأرق منه إلى النوم. لذا تسهل مغادرته والإفاقة من عذابه. نوم تقاطعه أصوات إطلاقات ومواجهات أمام بيتي وتتبعها ضجة طائرات وقصف من قوات الاحتلال لمنطقة قريبة ،قد تكون في حي الجامعة او المأمون، غير هذه وتلك يطاردني وقع خطى في الحديقة الخلفية وأسمع همس أشخاصٍ بين أشجار التين والعنب، مسلحون يتقافزون بين حدائق المنازل، ويهرعون إلى الشارع الرئيس، أستحضر رطانة الحكمة والأمثال والتعاويذ فتطوف بي أرواح من رحلوا في حروب مضت وتحمى بُرهتي من استبداد القنوط.
أنهض مروعةً على صرخات ، ولا أعود إلى النوم بل أترقب وصول حصة الليل: ساعة من الكهرباء تحول ليلي إلى نهار ، عمل جنوني فأتحرك مثل آلة مبرمجة: أشغل سخان الماء وغسالة الملابس والمدافئ الزيتية لتحفظ بعض دفء للصباح وأكوي الملابس، وما هي إلا ساعة وبضع دقائق حتى ينهمر الظلام وأغرق في الوحشة والدموع ، لاتخافي ، قومي يا امرأة، أشعل شمعة وأخرج إلى الحديقة لأشغلّ مولدة الكهرباء، أرتجف رعبا فلعل لصا أو إرهابيا يتربص بين كثافة الأشجار، أتمالك نفسي وأتنفس عميقا و أنجح في تشغيل المولدة و الساعة بلغت الثالثة فجرا وغادرنا النوم إلى بلاد أخرى ، أكتب لعملي مايقيم أودي لأيام قادمات ، أنعس فأنام على الأريكة الكبيرة في مكتبتي وأحركها بعيدا عن النافذة المواجهة للشارع تجنبا لمرمى نيران المتقاتلين في مواجهات الصباح.
يتبع
ساعتان من تقاويم الأمل الغائم مقاطع من كتاب "الحرب والمنفى"
[post-views]
نشر في: 8 نوفمبر, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...