اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > حياة رتيبة يائسة

حياة رتيبة يائسة

نشر في: 8 نوفمبر, 2014: 09:01 م

على صوت بلبل غريب، يقف على غصن حائر في شجرة البرهام الكبيرة، تصحو وخيوط الشمس لما تكتمل بعد، وقبل أن تضع إبريق الشاي على النار الزرقاء تروح، تلقي نظرة اولى على الماء الذي يدفع به المدُّ عالياً، فيغطي مراقي الشِّريعة الدنيا، وحتى لا تقولُ عن نفسك شخت وخرفت، تستل من عذق أصفر مُتدلٍ ما تنوشه يدك من رطب سيتْمِرُ بعد أسبوع، فالشمس تعجّل من مسيرتها نحوك، تدخل فسحة بستانك محرقة غاضبة، قادرة مستقدرة، هي أسطوانة تعاد كل يوم، لكنك وقبل ان تحمل فضْلة طعام المساء لرهط الإوز والدجاج في الزريبة الوسيعة تقف، تتفقد كعادتك، كل صباح ما اخضرَّ من الفسائل، هو دأب العاطلين عن التفكير بالموت، ودأب محبّي الحياة .أنت تطاعن بسيف من آمال عراض جيوش السام والملل والنهايات البليدة.
  ولأنك على مبْعدة من صخب قاعات كثيرة، لأنك لا تقوى على حضور يتقضّى جلّه في مجاملات لا معنى لها، ولأنك لا تكتب إلا ضميرَك وعفافك فقد شحَّ زوّارك، اتخذ محبّوك السابقين أخْدَانٍ جدداً لهم، كانوا أشدَّ بهجةً لديك، لكنْ، لا يضيرك من ذلك شيءٌ، ها أنت تحمل خطاك إلى النهر، كعادتك كل يوم، خيوطاً وقصباً وصناراتٍ، وعمّا قريب ستعلق سمكة وتصطف أخرى، ويطير طائر أزرق من حولك، ويفيض بستان بماء رقراقٍ كثير، وتحطُّ قُمْرية، تحنو على صغار لها بين مرتفع من الظلال، هو عالمك الذي ألِفتَ، واستبدلت به الكثير منهم. لا لست ممن يتضور قربا لهم، لست من تحمله أقدامُه لرذيلة عند أحد، فكن الجبل الذي يؤخذ العقيقُ إليه، كن القصب الذي ينبلج عنه فجر المسرات .
تنكمش قطعة الجسد فتصير ثوباً قصيراً، وتتضاءل مباهج الروح، فتمسي عصفوراً بحجم قبضة الوليد، وبين اغماضة عين وانتباهتها تتشكل صورة الأمل، وتتفلت من حجر اليأس براعمُ كثيرة، فلا تأخذنَّ من يابس المعاني نهايات ليومك ، ولا تظننَّ بقبضة يدك إلا خيراً، حتى وإن لم تطاوعك أصابعُك، قف ممدود الذراع، مبسوط الهمة، وأصرخ بالأغصان تأتيك طوعا وكرها، أنت غارسها، وأنت من أمسك ويمسك بالظلال لها، ووحدك من ظلَّ ممعناً، صاهلا ًيحدّث العابرين عن آماد الليل والنهار هنا، وحدك من ظل صامتاً، متأملاً المراكب بأشرعتها البيض وهي تغدو محملة بالأقفاص والصناديق والزنابيل مملوءة سمكاً ورطباً وقثاءً ويقطيناً. لا ليس الرفض قدماً تضعها على جادة وتسير، ليس القبول يداً ترفعها مودعاً وتختفي، أنت اكثر من ذلك بكثير، أبعد من ذيّاكَ وأنأى، هذي ظلالك تملأ الأرض، فخذ ما استعصى من الآمال، ما غلظ من الحبال واصعد سماءك التي تنزلتك شاعراً، اصعد، اصعد، اصعد. فأنت الوحيد القادر.
  أمسِ، وبينَ انا أبحث في التراب عن معنى جزّ ترادفُ المعاني ناصيته، قرأتُ الشنفرى، الشاعر، في لاميتهِ التي يقول مبغضو خلف الأحمر، راوية الشعر البصري الأعلم، بانه كتبها ونحلها للشنفرى، ووقفت على بيته الأشهر:( وإني كفاني فَقْدُ من ليسَ جازياً       ------   بِحُسنى ، ولا في قُربِه مُتَعَلَّلُ) . وهو لعمري خلاصة ما بعدها من خلاصة، حتى ليشعر المرءُ، الشاعرُ بان الفقدَ لا يعني انتفاءَ الانتفاع، ومحولَ الأرض، ذلك لأن البعض ممن كنّا معهم صفوةً وأصدقاءَ لم يكملوا معنا غربة الطريق، سقطوا في اول منعطف، حيث لا نسمع اليوم في تذكرهم إلا وقع أقدامهم وهي تخب الظلام وتختفي. وربّك يا شنفرى، لأِن كنت انت أو جاء بك خلف الأحمر فقد كنت واحداً منصفاً شاعراً. وقفت على خرائب نفوس كثيرة ما أطهرنا دونها. 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. محمد توفيق

    فتحنا أعيننا في طفولتناالغضة في البصرة على الماء والنخل والشوايخ كمفردات للحياة والبيئة البصرية التي كنا ندرس في بساتينهاونلوذ بفيئ نخيلها الوارف من حر الصيف، وأن جعنا ظهراً فما سقط من رطبها كان غذاءً لنا أثناء التحضير المنهك للبكالوريا فنأكله مع غباره

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram