نواصل في هذا المقال سلسلة مقالاتنا عن التعليم العالي، لننبّه بدايةً إلى أن حديثنا هذا إنما هو عن هذا القطّاع خلال السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة تحديداً. ولكنْ، مع أنه لم يكن ليعني بأي حال من الأحوال مرحلة الشهرستاني، فإن ما رصدناه ونرصده قد يكون مت
نواصل في هذا المقال سلسلة مقالاتنا عن التعليم العالي، لننبّه بدايةً إلى أن حديثنا هذا إنما هو عن هذا القطّاع خلال السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة تحديداً. ولكنْ، مع أنه لم يكن ليعني بأي حال من الأحوال مرحلة الشهرستاني، فإن ما رصدناه ونرصده قد يكون متواصلاً لحد الآن وربما سيتواصل، قبل أن تمتد يد الإصلاح التي نأملها من الشهرستاني. في الحقيقة إن غالبية هذه المقالات هي، في الوقت ذاته، رسائل مفتوحة إلى الوزير الجديد الذي نعقد هذا الأمل عليه.
ونود أن نشير أيضاً إلى أن هذه المقالات هي بعض من مشروع كتاب عن التعليم العالي في العراق.. أوضاعه ومستقبله، وكل ذلك مقارنةً بالتعليم العالي في العالم من خلال ثلاثة بلدان، اخترناها استناداً إلى مواصفاتها. فأولها بلد متقدم جداً وهو (بريطانيا) ربما يصعب علينا أن نطالب مسؤولاً عندنا، أكان الوزير السابق أم الوزير الحالي، بأن نلحق به، ولكن أن نتعلم منه؛ وثانيها يُفترض أن يكون، من ناحية التقدم الحضاري، في مستوى بلدنا وهو (الأردن) كونه بلداً نامياً ومن البلدان العربية التي تعالتْ الوزارة عليها فما عادت تجد في جامعاتها مكانَ ابتعاث ورحلات بحث وتفرغ جامعي؛ وثالثها هو بلد يُفترض أن يتعلم منّا وهو (سلطنة عُمان)، وإذا كان هذا البلد يفعل ذلك فعلاً بحدود الاستعانة ببعض كوادرنا الأكاديمية، فلا نظنه يجد ما نمتلكه مؤسساتياً مما يمكن أن يستعين به؟. وأنا حين أفعل هذا وأعقد هذه المقارنة مع هذه البلدان الثلاثة فإنما انطلق أيضاً من كوني امتلكت التجربة العملية فيها، وفي بلدان أخرى مماثلة، خصوصاً وأن من المؤلم في هذه التجربة السابقة والمقارنة اللاحقة أنني لم أجد أي شيء نتقدّم فيه أكاديمياً على هذه البلدان، باستثناء العنصر البشري، ولكن غير المتمثّل في القيادات والرئاسات والعمادات والمسؤوليات الإدارية، بل في الأستاذ والطالب. وهنا يجب أن نقول ان حتى هذا العنصر هو في تراجع مستمر من نواحٍ متعددة بفعل الواقع المؤسساتي السيّئ. هل هذا غريب؟ في الحقيقة، لا.. فليس غريباً أن نجد أي شيء في جامعات العالم، على مستوياتها الثلاثة التي درَست أو درّست فيها أو زرتها، أقل مستوىً من الناحية المؤسساتية والنظم الأكاديمية منه في جامعاتنا، وهو الواقع الذي نزعم أنه بعض نتائج البيئة السيئة، والإدارة السيئة، والمؤسسة السيئة، والقيم والأساليب والنظم الإدارية والأكاديمية السيئة التي تُدار بها جامعاتنا، مما نتعرض له تباعاً في مقالاتنا، وكل ذلك في عهدٍ شهد فيه التعليم العالي والجامعات تدهوراً غير مسبوق في تاريخهما.
ولعل في مقدمة ما قاد إلى هذا الواقع المؤلم هو مركزية الإدارة والقرار، خصوصاً أن هذه المركزية التي هي في الأصل على مستوى الإدارات العليا، في وزارةٍ تخصُّصُها هو أبعد ما يكون عن تقبّل المركزية، قد قادت وهي تُطبّق على مؤسسات فرعية- جامعات وكليات ومراكز علمية- إلى مفارقة طبيعية في سلبيتها تمثلت فيما يمكن أن نسميها مركزيات متوالدة، فمن مركزية وزارة إلى مركزية جامعة فمركزية كلية.. وهكذا. وكل ذلك كان من الطبيعي أن يقود المسؤول الأعلى فالأدنى إلى الاختيارات الخاطئة لمسؤولي المؤسسات الأكاديمية المختلفة، والقرارات الخاطئة للقيادات الإدارية ولهؤلاء المسؤولين، والتطبيقات الخاطئة، وفي النهاية النتائج السيئة التي نراها اليوم في كل مرفق من مرافق المؤسسات الأكاديمية. فنحن نعرف أن القرار العلمي/ الأكاديمي الصحي أفضل ما يكون حين يصدر عن القسم العلمي المتخصص المستقل، في وقت جُردّت فيه الأقسام العلمية من جلّ صلاحيات إصدار القرارات. وفي مقالنا هذا سنتعرض لأمثلة على هذه السياسة وبعض نتائجها، لنواصل هذه الأمثلة، وفقاً لطبيعتها وميادينها، في المقالات التالية.
وعلى أية حال، نعتقد أن مثل هذا متوقع حين يتولى مسؤوليات وزارة متخصصة مسؤولون ليست لهم علاقة حقيقية بتخصصها، أو هم ليسوا ذوي كفاءات، أو ممن لا يتم اختيارهم وفقاً لمعيارَي التخصص والكفاية، فيكونون بعيدين عن خانة ما يسمى التكنوقراط.. فهذا ما حدث لوزارة التعليم العالي، كما حدث لوزارات أخرى مثل الدفاع والمالية والثقافة مما صار معروفاً جداً، خصوصاً حين يصدر من وزراء هذه الوزارات ما هو متوقع في توزيع دوائرها، وفي حال التعليم العالي الجامعات والكليات، على من يكونون، في الغالب وليس دائماً بالطبع، غير مؤهّلين لإدارتها أولاً، ويكونون مستعدين للطاعة والتنفيذ على طريقة (أمرك سيدي، وحاضر أستاذ) ثانياً، ويكونون مستجيبين لإغراء الكراسي ومتشبثين فيها ثالثاً. وفي ضوء هذا لا أبالغ إنْ قلت إنني لمحت في بعض مثل هكذا مسؤولين، سلوكاً وإدارةً، ظلالاً من طبيعة الخاكي والزيتوني اللذين جثما على العراق ردحاً من الزمن وظننا أنهما قد وليّا. ولكني، مع هذا، إذا كنت أستطيع أن أفهم صمت من هم على كراسي المناصب إزاء كل ما هو غير أكاديمي يصدر عن الجامعات أو عن الوزارة نفسها، كونهم حريصين، قبل أي شيء آخر، على مناصبهم، فإنني لأستغرب ولا أفهم صمتَ بعض كبار الأساتذة الذي يتولون مسؤوليات وتنفيذهم لما هو خاطئ من القرارات والتعليمات. وذلك قد اخترق كل مجال: القبول، والامتحانات، والدوام والعطل، وإقامة المؤتمرات، والمشاركة في المؤتمرات الخارجية، والمكافآت المالية المختلفة، وتقاعد الأساتذة، والدراسات العليا، والبعثات البحثية، والمجلات العلمية، والنشر العلمي، وعمادات الكليات، والتخصصات العلمية المختلفة.. وغيرها كثير. والأمثلة على ذلك تطبيقياً كثير، لكننا سنمرّ، في هذه المقالة، على بعضِ مما خبِرناه أو اطلعنا عليه أو شهدناه، لتترى أخرى في المقالات القادمة، متجنبين تسمية أشخاص هذه الأمثلة، لأننا معنيون بأفعال الأشخاص، إلا من كان ذكره ضرورياً، فالذي يهمنا هو الحالة لا أصحابها. وسنتجاوز هنا المثال الذي ذكرناه في المقال السابق، المتمثل في أن رئيس إحدى الجامعات، وانطلاقاً من حرصٍ "على مواكبة الحداثة العلمية والسير بخطى متسارعة نحو حركة التطور العلمي، [يقرر] دعم وحثّ باحثيها المتميّزين والحاصلين على جوائز خارج العراق نحو تقديم الأفضل بتكريمهم بالشكل الذي يتلاءم مع ثقل ما قدموه من خلال توجيه شكر وتقدير لهم". وفي ذلك كله سنرى كيف يُتخذ القرار وإلى ما يؤديه من بؤس وتدمير للأكاديمية.
روى لنا الأستاذ (ن) في إحدى الكليات أنه فوجئ يوماً باستدعاء العميد له، وهو الذي لم يطلبه ولا أي مسؤول آخر من قبل، وحين ذهب إليه فاجأه ثانيةً حين عرض عليه تولّي مسؤولية مجلة الكلية العلمية، بعد أن لم يسبق له، رغم سيرته العلمية والأكاديمية المتميزة، أنْ كُلّف بأي واجب أو مسؤوليةِ إدارة علمية. على أية حال هو استبشر خيراً آملاً أن يكون ذلك مؤشرَ أفقٍ أكاديمي صحي جديد، وبالفعل ما أنْ صدر الأمر حتى تهيّأ للمباشرة في عمله الجديد. ولكن قبل أنْ يفعل ذلك وبعد ثلاثة أيام من صدور الأمر تم استدعاؤه من العميد من جديد، لتكون المفاجأة الثالثة حين بادر العميد بالاعتذار منه على إلغاء الأمر بعد اكتشافِ أنه لا يستطيع تكليفه بهكذا مسؤولية وهكذا (منصب!!!) دون استحصال موافقات مسبّقة من الجهات العليا!!! تصوروا: ليتولى تدريسيٌ يحمل لقب أستاذ مسؤولية مجلة علمية، ليست فيها أية سلطات على أحد، يجب استحصال موافقات جهات عليا. هنا أتذكر حكاية حدثت وقائعها في الاتحاد السوفيتي زمن ستالين حين كانت مركزية الحكم وإدارة الدولة والقرار في قمته، وخلاصتها أن شاعراً شاباً قدّم طلباً إلى جهة النشر الرسمية في البلد لطبع ديوان شعر عاطفي/ غزلي، ولأنه كان ذاتياً في مرحلة العداء للفرد والذات وخصوصية الإنسان وعواطفه ومشاعره، فقد تردد الخبير في الموافقة وفضّل رفع الأمر إلى مديره المباشر، الذي تردد هو الآخر في الموافقة وفضّل، بدلاً من ذلك، رفع الأمر إلى مدير المؤسسة الأعلى، الذي فضل هو الآخر رفع الأمر إلى وزير الثقافة. فماذا كانت النتيجة؟ أن الوزير فضل، خوفاً، رفع الأمر إلى ستالين شخصياً الذي وافق على طبع نسختين من الديوان تكون واحدة للشاعر والأخرى لحبيبته.
هي واقعة يقال انها حقيقية، وفي الوقت الذي تخف فيه نسبياً غرابتها كونها تعود إلى منتصف القرن العشرين وفي بلد كان يقوم على مركزية الحكم وإدارة الدولة ودكتاتورية حاكمها المعروفة، فإن مثل هذه الغرابة لا تزول في واقعة الكلية العراقية كونها تقع في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وفي بلد يُفترض أنه يسعى إلى الديمقراطية والمعاصرة. ولكننا يجب أن نشير إلى أن العميد في واقعتنا لم يرتضِ، على ما يبدو، مثل هكذا وضع، كما لم يستطع فعل شيء، ففضل بعد مدة ليست بالطويلة التنحي عن العمادة، ونظنه سجل في هذا موقفاً، صمت كثيرون إزاء أمثاله.
أمثلة هذه الواقعة كثيرة، وسنأتي على بعضها تباعاً في المقالات القادمة، كما قلنا. ولكن من طريف سخريات الواقع أن نذكر، أخيراً، أن عميد إحدى الكليات، وهو كاتب وإعلامي معروف، وفي ظل مثل هكذا وقائع، لا يمتنع محاولة فعل شيء والإصلاح، أو على الأقل يصمت، بل يبادر، قبل سنتين، بالدفاع عما رآه، ولا ندري كيف رآه، حركة إصلاح في التعليم العالي.