لم يكن الفنان العراقي محمد مهر الدين في تجاربه الأخيرة التي قدمها فناناً تشكيلياً صرفاً ، ولا مؤدياً مهارياً لعوالم اللّوحة وأسراها ، انما يمتلك التعبير عن الطاقات المعرفية للأنساق المتداولة والمطروحة عنده ، فللوهلة الاولى نمسك بوحدة الموضوع وآ
لم يكن الفنان العراقي محمد مهر الدين في تجاربه الأخيرة التي قدمها فناناً تشكيلياً صرفاً ، ولا مؤدياً مهارياً لعوالم اللّوحة وأسراها ، انما يمتلك التعبير عن الطاقات المعرفية للأنساق المتداولة والمطروحة عنده ، فللوهلة الاولى نمسك بوحدة الموضوع وآليات اشتغاله على درجة كبيرة من الإحالات المأخوذة من الواقع المهمش ، ثمّ بعدها يتحول الى ثيمات فاعلة ومتمركزة في صلب أعماله ، كما تستنهضه ايضاً طروحات فكرية متراكبة ومتداخلة معاً ، يسقطها ويحاول الإمساك بها على انها تمثل عوالمه الفنية التحريضية لكسر مركزية اللّوحة التشكيلية ذاتها ، فمع حضوره الأول في خمسينات القرن الماضي ونضوج تجربته مطلع العقد الستيني واقامة معرضه الاول لفن (الكرافيك) في العام 1965 ، مرورا بمعارض عدّة أقامها ، فقد اطلعت على معرضه الذي أقامه في العام 2004 ، لمست حينها اننا بحاجة الى قراءة عوالم الفن التشكيلي او الطروحات الثقافية الحديثة للوصول الى ما يصبو اليه هذا الفنان .. فبعد عقود متواصلة من الخوض والاجتهاد والابتكار والاطلاع ، فإنه يعرف ما يريد ، وعلى الآخر الوصول الى قصديته الفنية للمضامين المطروحة عنده..
ما التقطناه في اشتغالات (مهر الدين) الاخيرة ، يمكن ان نصنفه في اطار (ما بعد الحداثة) ، وتحديدا التجريد الطبيعي الذي اسمته (ليندا هيتشون) في كتابها (سياسة ما بعد الحداثية) بـ(التمثيل) ، حيث (الاشياء كلّها : الصورة .. القصة .. ومنتوج (منتج) الايديولوجيا)، هي وظائف صيغت بطريقة فنية داخل لوحاته ، فإنها انطلقت من كونها ذات سمة تجريدية مفعمة بخيوط تجريبية واضحة ، بالاضافة الى استعادة ثيمات لها مرموزاتها التاريخية ، وإن كانت سريعة ، لكنها تقع في صلب ما هو حديث ومعاصر ..
ولعلنا حين نحتكم نقدياً على اداءات الفنان ومحاولة الوصول الى جواهر الاشياء ، تنهض امامنا التداخلات الثيمية التي تكسر بنية (الدال) الموضوعي (اولا) وللتوظيف اللّوني (ثانياً) ، بمعنى إظهار الطاقات الكامنة المسكوت عنها للمهمش ، فما معنى ان نشاهد تخطيطات تعبيرية واخرى واقعية متداخلة مع (ماركات) لسلعة معينة تناظرها اشكال مغايرة بألوان تضادية .. او نشاهد ثمّة عمق تناسقي للّوحة يخترقها (خربشات) ملموسة ، كلّ ذلك هو من صلب واقعنا الآني/المعاصر ، وحين نوزنه بمعيار ثقافي ، فإنه بلا شك من مكونات ما بعد الحداثة ..
وحين يعتمد الفنان محمد مهر الدين في أعماله على بعض الكولاجات التي تقف بجوار الثيمات المكملة للعمل الفني لديه ، فإنه يثير الاسئلة ،فـ( استطيقيا) العمل الفني عنده لا يلامس السطح فحسب ، بل هناك قصدية متراكمة انتجتها عوامل الوعي للفنان وهو يقرأ العالم من خلال لوحاته ، او يعبر عن عن مواكبته لوعي ما بعد الحداثة في مضمار الفن التشكيلي ، ويمكن تشخيص ذلك لما شاهدناه من لوحات تهجينية مركبة ، حيث (اللون والخامة القماشية والملصقات المتنوعة بشكل منتظم والخربشات المرادفة للعمل ، وغيرها ) انطوت على تبريرات ثقافية قبل ان تكون تقنية ، بمعنى الاشتغال والتركيز على الحالات الدالة على الثيمات العبثية المنتمية الى الواقع ..
من صلب الموضوع ، قدم مهر الدين قراءة وافية لواقعنا المفخخ والمضطرب ، فكانت جلّ اعماله تلامس مفرداتنا الحياتية ، المفردات المغمسة بزمن العولمة والمعادلات المتداخلة لواقع فيه العجيب والغريب والمباح والمدنس ، طافح على سلوكياتنا المألوفة ، لتعطي نكهة مغايرة وجديدة تكرست بمنجز تشكيلي ، هو بحد ذاته يكشف عن خطاب حساس وملموس ومعاش .
اما مايخص طريقة توظيف ادوات اللّوحة / ثيماتها في أعماله المقصودة بالأشكال الهندسية التي رأيناها ، فهي ليست بالجديدة عنده ، لكن فيها مقننات عبرت عن قدرته على رسم العديد من الاشكال بالقياسات الفنية التي يريد ، فكانت الدوائر والمربعات والمثلثات ، تناظرها لعبة المتن والهامش وبعض الميزات المحكمة بوصفها تشكل طريقة من طرق خرق الاشكال الثابتة في تجربته ، وهذا ما ساهم في اعطاء مسحته التشكيلية العارفة بخيوط وضوابط المرحلة الراهنة من عدّة جوانب ..
كما تطرح قراءة الفنان للواقع المحلي او العالمي عدة أسئلة داخل لوحاته ، لا اعرف ان كانت تنطوي على جدل متداخل ومتراكب للسوسيو سياسي المنسرح على الفكري او سقوط الفكري في خضم كسر الأنساق التراتيبيه لذالك ، فكل مايمكن امساكه ان موضوعته هي موضوعة ثقافية مطلة على معاصرة ماهو متداول في الفكر الفلسفي والاجتماعي والسياسي وكل ما تحلت به توصلات ما بعد الحداثة .
ومع التمايز الحاصل في أعمال الفنان من جانب الأداء الفني والمهاري في كل لّوحة ، فقد كانت لدينا استقراءات تفردية اخذت على عاتقها طريقة استخدام الخطوط المرسومة في أساليب متناظرة من جهة ادائية ومقتربة من جهة فنية ، حيث نمسك ببعض اللّوحات وهي تقدم نفسها بوصفها واحدة من اشتغالات الفن التعبيري القريب الى فن (الكاركتير) ، ولعل الميزة هذه أعطت انعطافة واضحة للامساك بوحدة الموضوع الذي قصدناه ، ومن جهة اخرى كانت هناك لوحات تتداخل في مضمونها تركيبات العجائن مع الملصقات (البورتريه) المبعثرة ، لتشكل حقيقة تقديم ثيمات متناغمة ومتناسقة ، وهي بلا شك ناتجة عن استخدامات افترضتها لحظات الوعي الثقافي لدى الفنان .
محمد مهر الدين ، بكل ما يحمله من تجربة واسعة وكبيرة ، تجربة أخذت على عاتقها خبرات متراكمة في ميدان الفن التشكيلي ، الاّ انه استطاع ان يواكب مراحل التطور الثقافي وانعكاساته على الفن التشكيلي ويطبقه بحرفنة الرجل المعاصر لكل الأحداث ، واستطاع ان يؤكد ان اللّوحة هي ميدان للتعبير عن كل الطروحات الفنية ، وإن لم تكن تشكل عنصراً مهما من عناصر التعبير الفكري ، وهذا ما أمسكناه في أعماله المعبرة عن حالات النضوج الثقافي والفني في اداءات ما بعد الحداثة.