يقول صديقي في الرحلة إلى طهران: ماذا كان يفعل حكّامنا حين مروا من هنا، أولئك الذين أقاموا العقد والعقدين، متنقلين بين قم وطهران ومشهد وشيراز وأصفهان، لماذا لم يتعلموا من التجربة الإيرانية فن إدارة البلاد، ألم يمروا بـ "دربند" التي في شمال طهران، ألم يتعلموا من الإيرانيين طريقة إنشاء الشوارع وترصيفها وتشجيرها، وهي من أعمال البلديات الصغيرة؟ فيكثر بأسئلته، مبالٍ، مهموم، حائر، حزين. غير أني وجدت نفسي مشغولا بين يدي الطبيعة، وهي تتقلب فتيانا وصبيات صاعدين المضايق المتعرجة، وسط خرير الماء النازل من الجبال، رايتهم وهم يقبلون بعضهم شوقا وافتتانا. هو اللطف المسؤول المنظّم عن نشأة جيل خال من عقد التشدد، بعيد عن كل ما يسيء للإنسان ويحط من كرامته.
في فوركن بوك ستور، وهو اسم لمكتبة واسعة تقع في تقاطع كشاورز، المتفرع من شارع ولي عصر، الشارع الأشهر في طهران وربما في الشرق كله، هنالك مكتبة هي الأجمل من حيث التنظيم والعرض، نفاجأ فيها بترجمة كاملة لأعمال الكاتب الفرنسي الفائز بنوبل العام هذا "باتريك موديانود"، أعجب، ترى متى كان لهم ذلك، ومن يحرك الوسط الثقافي هنا؟ ثم نتجول في أروقة المكتبة فنرى وفي طبعات عديدة مذهبة، جميلة، باذخة أعمال الشيرازيين، الشاعرين الكبيرين سعدي وحافظ فيعجب صاحبي قائلا: كيف تحوّل الشاعر إلى رمز ومقدس، وكيف تم للعامة والخاصة ذلك، مع يقيننا بان أعمالهما الشعرية لم تكن خالصة للعشق الإلهي، فهما قالا الكثير في الخمر والطبيعة والحب؟
يعجب صاحبي من عدم رؤيته للكثير من البيارق واليافطات الحسينية، مع وجودنا في موسم العاشوراء، فيقول السائق والمترجم لنا بان المواكب والمخيمات تقتصر على يومي التاسوعاء والعاشوراء ومن ثم ترفع لتبدأ الحياة، ثم يزداد تعجبه لأنه لم يسمع النواح واللطم والجلد والأصوات المختلفة من مكبرات الصوت، التي ألِفها في عراق الوسط والجنوب، وهو يراها على كل منارة وفي كل تقاطع وسوق وبيت.
في البازار الكبير، الذي يبدأ من تقاطع في شارع ناصر خسرو، حيث الازدحام على أشده، في ساعات الضحى الأول، كان السوق هذا متاحا للمارة، فهو عريض واسع مشجر ونظيف، وقد تباين الباعة فيه في عرض بضاعتهم، لكن منظر الحنطور والترام الميكانيكي بعرباته التي يسحبها في وسطه كان فرصة للتعبان والمريض والمسن، مثلما هو استراحة ونزهة فائقة الجمال لمن أجهده المشي وأعيتهُ معاينة الناس والبضائع الرخيصة. يقول تاجر في سوق القماش والألبسة بان إيران تصنع كل شيء. فأصدقه القول. بل قلت نعم، إيران تصنع حتى قيم الجمال.
حين حل مساء الليلة الثانية من إقامتنا بطهران الكبيرة، لبينا دعوة الصديقة الشاعرة الإيرانية مريم حيدري التي كانت تنتظرنا عند بوابة مقهى جميل في حي هادئ تظلل الأشجار العالية منازله، تقول مريم بان المقهى هو في الأصل منزل من أعمال أثرياء طهران، قديم لكنه اثري كما نرى، يجلس فيه الفنانون السينمائيون، ممثلون ومخرجون وكتاب ومصورون، يستخدم جماعتُه الطابق الفوقي منه مدرسة خاصة بتعليم السينما وفنونها، وهنالك دوام منتظم للطلبة فيها، فيما يتخذون من الطابق الأرضي وحديقته مقهى وكافيتريا. شباب بأعمار الحياة الأولى، صبايا وفتية ومعهم أساتذتهم يجلسون على المقاعد الإفرنجية، كالتي نجدها في بارات لندن وباريس يتحدثون عن السينما والفنون الأخرى بحماسة من يعتقد بان الحياة تبدأ من لقطة في ابتسامة صادقة. كان صاحبي أكثر مني تعجبا حين قالت مريم ان أكثر من مائة فيلم سينمائي ينتج في إيران كل عام .
خلال تجوالنا في طهران لم نتمكن من رؤية ضواحيها الكثيرة، لكن الصورة تأتي كاملة وسريعة من نافذة في فندق جيهان، من إطلالة سريعة على شارع ولي عصر، من وقوفنا على الجادة الرئيسية في تقاطع انقلاب، لكنها تتضح عند مسرح تاتران أديب، الذي يعثر فيه السائح والزائر على واحد من أسرار تقدم المدينة ورقي ناسها، ها نحن نقف أمام صرح ثقافي كبير. لم ندخله، لأننا لا نملك تذكرة، وقد أغلق البوّاب مدخله، لكننا وجدنا المئات من محبي المسرح والفن من الشباب، فتية وصبايا وقد تحلقوا حول المبنى الخرافي، ولأنه لم يملك القول المناسب للوصف قال صاحبي: ألا ترى بان الضوء الشحيح حوالي المبنى مع وجود المصاطب الكثيرة، تحت الأشجار الكثيفة، وسط التجاهل البائن من السلطات. ألا ترى ذلك كله يمنح الشباب فرصة أعلى للذهاب باتجاه الحياة؟ انظر هذا كيف يمسك بذراع حبيبته، هو يقبلها برفق ويطيل في قبلته. كان الضوء ينحسر شيئا فشيئا على خشبة المسرح التي ربما تكون قد اعتمت الآن .
مشاهدات عراقي في طهران
[post-views]
نشر في: 15 نوفمبر, 2014: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 3
سلام محمود احمد
الشيء غير الجيد في طهران هو انها محاطة بالجبال من كل النواحي وذلك يجعل دخان السيارات سحابة فوقها. عدا ذلك فهي جميلة للغاية
د عادل على
هل رايت معابد المجوس فى شمال طهران من ناره يطبخون تمن مع زعفران----فى دربند تستطيع ان تاكل احسن الاكلات فى العالم كباب كوبيدة كباب بره كباب برك مع احسن تمن فى العالم تمن رشت الميناء على بحر قزوين وهناك سمك لايوجد مثيل له فى العالم ماهى سفيد او السمك الابي
hassan
وهل ذهبت خلف شارع ناصر خسرو بعشر امتار لترى بيوت فقيرة بائسة في كل غرفة فيها يسكن عائلة من اكثر ستة انفار