TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > عروس لشبونة

عروس لشبونة

نشر في: 16 نوفمبر, 2014: 09:01 م

ألحت عليّ زيارةُ العاصمة ليشبونة، منذ اقترحها عليّ صديقٌ فرنسي. قال لو أنه يملك دخلاً مضموناً لأقام في هذه المدينة كل حياته. عبّأتُ جهاز "الكِنْدل" مختاراتٍ من شعر فيرناندو بْسوا، وذهبت. حين غادرت سيارةُ الأجرة طريق المطار سرعان ما انتهت من الطريق المنبسط، لتدخلَ تضاريسَ أرضيةً من التلال. وهذا أول ما قرّبني من المدينة. شعور انتابني مع بيروت (1969)، ومدينة الجزائر مؤخراً. تضاريس تتيح لك فرصةَ أن تتأمل الحياةَ من فوق ومن تحت في دقائق. ثُم أن اختبار عضلِك في رياضة طبيعية فرصةٌ لا تُتاح في العواصم عادةً. ولكن مشهد الترام، وهو المرأى الثاني، كان أشبه بقفزة مكّنت قدميّ من أرض الأحلام. انتزعتني من واقع ما بعد الحداثة الألمنيومي البارد، المتسارع، إلى احتمال زمن خشبي دافئ، متباطئ.
تعجّلتُ ارتيادَ الترام، ما إن انتزعتُ النفس من الحقيبة. عربةٌ واحدةٌ لا غير، خشبيةٌ، صفراء البشرة، وصغيرةُ الحجم نسبياً، إذا ما قيست بسيارات النقل. مقاعدُها الخشبُ على عهدها يوم تأسيسها عام 1873 وقد جيء بها من أمريكا، يوم كانت تعتمد الخيول، ثم عهدِ كهْربتِها عام 1901. عدد الوقوف المسموح به أكثر من عدد الجالسين. تنوء بهم فحركتها بالغةُ البطء، وكأنها تفعل ذلك عن دراية بفعل الحذر، وضاجةُ الصرير بفعل الألم. فالأرض ذات ارتفاع وانخفاض مفاجئيْن، والطرق قديمة ضيقة، وأحياناً بالغة الضيق. حتى لتعجب كيف تأمنُ العربةُ من المارة، وكيف يأمن المارةُ منها، فكلاهما رقيقٌ عزيز!
إنها عروسُ لشبونة دون منازع. وبقاؤها قيد الحياة رهينُ العقل، والعصر الحديث تخلّى عن العقل أو يكاد. وإذا احتفظ بشيء منه فهو عقلٌ بالغ النفعية. ولا يُقارن نفعُ الترام بنفعِ الميترو الحديث بالتأكيد. ولكن أيّ جمالٍ منهما يبعث على التنّهدات؟
المرأى الثالث هو لمسة الإرث العربي الإسلامي المتبقية على المرصّعاتِ، الواجهاتِ السيراميكية لمنازل السكن، بيوتِ الأزقة القديمة، العمارةِ التاريخية، وأسماءِ الأماكن. ووجوهُ البرتغاليين، حركةُ أعضائهم عند المشي والحديث لا تختلف كثيراً عن الوجه والحركة العربيين. وإذا قلت لأحدهم إنك عربي يُجيبك بأن تذهب إلى منطقة "ألفاما" في قلب المدينة لتجد ظلالَك مازالت بالغةَ الوضوح. ومنطقة "الـفاما" (الحمّام في الأصل العربي) عجيبة في أزقتها المنحدرة عميقاً، وكأنها أحياء في وادٍ ضيق. هناك تكثر مطاعم موسيقى الـ "فادو" الشهيرة، حيث قضيت سهرة مع أصوات مغنيتين ومغنييْن مع عازفيْ غيتار يقارب شكل العود. والفادو (التي تعني القدر) ألحانه عاطفية، تميل إلى الحزن والتوق.
جلستُ في مقهى "براسيلييرا" التي كان يرتادها الشاعر فِرناندو بْسوا (1888-1935)، وأخذت صورة مع منحوتته البرونز على الرصيف، وهو جالس بقبعته ونظارته ولباسه الجنتلماني. ولكني فوجئت، حين زرت مسكنه الذي لم يصبح متحفاً إلا في العام الماضي، بأنه يحتل غرفة صغيرة في مبنى بطوابق أربعة، ينفرد فيها سريرٌ، خزانة ملابس، طاولة وصندوق كبير كان يُلقي فيه قصاصات قصائده، ولا يسعى لنشرها. الغرفة الصغيرة العارية، داخل العمارة الفارغة التي أصبحت مركزاً ثقافياً، بدت لي أشبه بعينة رمزية لكيان شعري، بالغ الإدهاش والغرابة. فهو لم ينشر، على غزارة إنتاجه، إلا مجموعة شعرية واحدة في حياته. وكان يكتب القصائد موزعة على شخصيات شعرية مُتخيلة، مخلتفة ومتضاربة الرؤية: ألبيرتو كاييرو، كامبوس، ريكاردو ريس واسمه هو بْسُوا.
قبعتُه السوداء الشهيرة توسطت سريره. نظارتُه السوداء المدورة استقرت على طاولته. وحين سألت عن مرافقه الصحية قيل لي إنها أُزيلت بفعل إهمال أتلف المبنى الذي عاش فيه أهم شاعر برتغالي، وأحد أهم شعراء القرن العشرين. فقلت: لابد أن لهؤلاء جذراً عربياً. فنحن أبرع الأمم بانتهاكٍ كهذا.
قرأت بعد الزيارة قصيدته الطويلة "أنتيناوس" (1918) التي كتبها بالانكليزية، مستحضراً لواعج القائد الروماني "هادريان" بعد موت صديقه المقرّب "أنتيناوس":
أمطرتْ في الخارج داخل روح هادريان.
الفتى مطروحٌ ميتاً
على المقعد الخفيض، وقد جُرّد من ملابسه تماماً..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram