TOP

جريدة المدى > عام > فصول من السيرة الذاتيّة للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون

فصول من السيرة الذاتيّة للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون

نشر في: 18 نوفمبر, 2014: 09:01 م

القسم الرابع   في عام 1962 بدأت معرفتي الشخصيّة بعالم النفس الأمريكيّ ( ابراهام ماسلو Abraham Maslow )* الّذي يعدّ أوّل من شخّص في كتاباته ما بات يعرف اليوم ( تجارب الذروة Peak Experiences ) التي يمكن وصفها ببساطة بأنّها شعورٌ ببرهاتٍ من السعا

القسم الرابع

 

في عام 1962 بدأت معرفتي الشخصيّة بعالم النفس الأمريكيّ ( ابراهام ماسلو Abraham Maslow )* الّذي يعدّ أوّل من شخّص في كتاباته ما بات يعرف اليوم ( تجارب الذروة Peak Experiences ) التي يمكن وصفها ببساطة بأنّها شعورٌ ببرهاتٍ من السعادة الطافحة المتفجّرة ، و كانت إحدى الأمثلة المعياريّة لهذه التجارب الفريدة هي تلك التي كتب عنها ماسلو واصفاً حالة أحد طلّابه الجامعيّين من دارسي الجاز و الذي وجد نفسه صباح أحد الأيّام ممتلئاً بطاقة عجائبيّة متفجّرة و راح يعزف الجاز بطريقة مثاليّة تخلو من أيّة شائبةٍ في الأداء .

 
رأى ماسلو أنّ تجارب الذروة كانت تحدث بمحض الصدفة و ليس ثمّة من وسيلةٍ لحثّها إراديّاً ، و لم أكن أشاطره الرأي بعد أن شهدت أنّ كثرةً من هذه التجارب يمكن أن تحدث في مواقف متباينة : بعد جهدٍ طويلٍ متّصل ، أو بعد انزياح شدٍّ نفسيّ أو جسديّ مفاجئ عن كاهل المرء مع ما يعقب هذا الانزياح من دفق ِ راحة و استرخاء ، و لم أكن أنا نفسي استثناءً من هذه التجارب الذرويّة و أستطيع الزعم أنّ واحدةً منها على الأقلّ حدثت معي في منتصف الستّينات عندما كنت أقود سيّارتي عائداً أنا و عائلتي من إسكتلندا و كنّا قد انطلقنا من لانكشاير . ظننت في البدء أنّ رحلتنا ستمتدّ لمسافة حوالي مائة ميل ، و بعد أن أمضيتُ قرابة الساعة في قيادة السيّارة أدركت كم كنت مبالغاً في تخمين المسافة من موضع انطلاقنا حتّى بلوغنا الحدود الفاصلة بين إسكتلندا و إنكلترا إذ شاهدتُ علامةً تشيرُ إلى أنّ أمامنا قرابة عشرة أميالٍ لنبلغ الحدود الإنكليزيّة و هذا يعني أنّ ( ليدز ) صارت قريبة منّا ففكّرت حينها أن بإمكاننا زيارة صديقٍ قديمٍ لي يقيمُ هناك و ربّما قضاء الليلة بأكملها في منزله ، و أذكر كيف أنّ إدراكي بانّنا كنّا أقرب إلى الحدود الإنكليزيّة ممّا كنت أظنّ ملأني بغبطة عارمة لم أشهد مثيلاً لها من قبل و بخاصّة انّ ذلك الصباح كان رائعاً و مشمساً فرأيت مزاجي مشحوناً بطاقةٍ جيّاشة من التفاؤل الطاغي ، ثمّ تصاعد مزاجي التفاؤليّ مع رؤيتي للمرتفعات العظيمة في مقاطعة البحيرات المحاذية للحدود الاسكتلندية – الإنكليزيّة ماثلة في الأفق أمامي و لطالما كانت هذه المنطقة واحدة من أجمل المناطق و أحبّها عندي و أعرف تضاريسها الجغرافيّة بأفضل ما يمكن من الدقّة و التفصيل ، ثمّ اجتاحني إحساسٌ غريب فوجدتُني قادراً على رؤية ما يقع على الجانب الآخر من المرتفعات و لا أعني هنا أن المرتفعات صارت شفّافةً بطريقة مباشرة و حرفيّة و لكنّ ما أعنيه أنّني صرتُ كطائرٍ يمتلك القدرة على رؤية ما يقع على جانبَي تلك المرتفعات و هو يحلّق في الأقاصي العالية و امتدّ هذا الشعور المكثّف المقترن بالإدراك الفائق حوالي ساعة أو أكثر بقليل .
اكتشف ماسلو و بطريقة تدعو للدهشة أن طلبته الجامعيّين عندما كانوا يناقشون تجاربهم الذروية مع بعضهم كانت تجاربُ ذرويةٌ جديدة تنهال عليهم طوال الوقت و لم يكن ذلك بالأمر الذي يمكن إغفاله بالنسبة لأيّ عقل مدرّب و عين مستبصرة . 
تعيش الكائنات البشريّة أيّامها الاعتياديّة و هي مقيّدة دوماً إلى نمطٍ من المحدوديّات الطبيعيّة و تستجيب هذه الكائنات تبعاً إلى ما يواجهها من التحدّيات و المشاكل اليوميّة و هذه الاستجابة المزمنة هي ذاتها ما يقيّد الإمكانات الهائلة للوعي البشري و آفاقه غير المستكشفة ، و ما يميّز الحديث المتواصل عن التجارب الذرويّة أنّه يتيح إمكانيّة اختبار كم نحن محظوظون في تجربة حالاتٍ لم يختبرها غيرنا و هذا ما يمنحنا سطوةً قويّة لتجاوز المقيّدات و المحدوديّات المفروضة على وعينا البشريّ : المسألة بالضبط كمن يدرك أنّه يمتلك مالاً في البنك أكثر بكثير ممّا كان يظنّ ، أو بالعودة إلى مثال تجربتي الذرويّة الأولى عندما أدركت أنّ الحدود الإنكليزيّة هي أقرب بكثير ممّا ظننت لحظة شروعي في القيادة و عندها توفّر لي المزيد من الطاقة الإيجابيّة التي بإمكانها أن تجترح بدورها تجارب ذروية جديدة .
حاجج ماسلو لاحقاً أنّ تجربتي الذرويّة عند قيادتي السيارة من إسكتلندا إلى إنكلترا كانت وَهْماً ناتجاً عن خطأ في احتساب المسافة و لم تكن أكثر من محض مصادفة حسب و حصل أن وافقته الرأي آنذاك و لكن كان ثمّة موقف آخر في كانون ثانٍ 1979 عندما انغمرت في تجربة ذروية و لكن بعد جهدٍ محسوب و مدبّر من قبلي و ليس بمحض الصدفة العابرة : كان عليّ يوم السبت 30 كانون أوّل 1978 أن أسافر إلى قرية تدعى ( شييبووش Sheepwash ) في مدينة ديفون الإنكليزيّة و إلقاء محاضرة هناك ، و كان الجوّ ممطراً عندما شرعت في رحلتي ، و بعد أن وصلت مدينة ( لونسيستون Launceston ) بدأ المطر يستحيل كرات ثلجيّة . وصلت مزرعة تدعى ( توتلاي بارتون Totleigh Barton ) متأخّراً بعد الظهر و حاضرتُ في مجموعة من الطلبة عن الشعر بعد أن تناولنا وجبة الغداء ، و عندما ذهبت تلك الليلة إلى الشاليه المخصّص لي كان الثلج قد تكوّم بهيئة طبقة سميكة و كان لايزال يهطل بشدّة و بدا واضحاً لي صباح اليوم التالي أن ليس بوسعي قيادة سيّارتي و العودة إلى منزلي لذا اتّصلتُ هاتفيّاً بزوجتي و أخبرتها أنّني قد أعْلـَق في القرية بسبب الثلج لبضعة أيّام قادمة ، و أذكر ذلك اليوم جيّداً لأنّه تصادف مع ليلة رأس السنة و كان يوماً شديد البرودة حتّى أنً المياه تجمّدت في صنابير المياه . ركبتُ سيّارتي صباح اليوم التالي - المصادف بداية السنة الجديدة 1979 - و صعدتُ المنحدر المتصل بالطريق العام و مضيت في طريقي عائداً إلى المنزل . كانت الطرقات ضيّقة للغاية في المدينة و كان على كلّ من جانبي الطريق خندق لتجميع مياه الأمطار و تيقّنتُ منذ البدء أنني إذا انزلقت بفعل الجليد إلى أحد الخندقين الجانبيين فسأعلق حينها في ورطة كبيرة و لن يكون بوسعي الخروج إلّا إذا توفّرت لي القدرة على الاتّصال بخدمة الإنقاذ التي قد تتأخّر كثيراً في تلك الأجواء الصقيعيّة القاسية ، و لمّا كان كلّ شيء غارقاً في الجليد فلم أكن قادراً علي تمييز الحدّ الفاصل بين الطريق و الخندق الجانبي المحاذي له من كلا جانبيه و هكذا جلست خلف مقود السيّارة في سكينة تامة و رحت أقود السيّارة واضعاً جهاز تبديل السرع الميكانيكي على النمرة الثانية مكتفياً بالتحديق في زجاج السيارة الأمامي في تركيز تامّ ، و قد استغرق الأمر أكثر من ساعتين من القيادة للوصول إلى طريق اكستر العام حيث كان الجليد هناك قد استحال طيناً ملوّثاً بالأوساخ و عندها صار بإمكاني الاسترخاء قليلاً بعد زوال خطر انزلاق السيارة المفاجئ عنّي و هنا اكتشفت أمراً باعثاً على أشدّ حالات الدهشة : إنّ ساعتين من التركيز المحموم على الطريق خشية الانزلاق و الوقوع في الخندق الجانبي استحثّ فيّ حالة من الوعي المفارق للوعي الاعتياديّ و كان كلّ شيء يبدو لي مثيراً و باعثاً على الغبطة بطريقة لم أعهدها في الأحوال الاعتياديّة من قبلُ حتّى أنّ الأكواخ التي كنت أراها على جانبي الطريق بدت لي أماكن مدهشة للعيش و كم كنت راغباً في التوقّف عند كلّ كوخ منها و معاينته بتدقيق عظيم !! . دامت حالة الوعي المكثّف هذه معي طوال قيادتي نحو منزلنا و عندما اقتربت من المنزل وجدت الكهرباء مقطوعة عن المنزل و كانت زوجتي واقفة في الفناء أمام المنزل و هي تحمل مصباحاً يدويّاً تضيئُ به طريق تسعةٍ من الجراء الصغيرة التي أطلقتها لتكون دليلاً لي عند اقترابي من المنزل .
أثبتت تجربتي الذرويّة هذه لي بصورة بعيدة عن أيّ شكّ أنّ ماسلو كان مخطئاً في تصوّراته و أنّ حالات الوعي العميق والمفارق للوعي الاعتيادي والمقترن بالغبطة العارمة - يمكن حثُّها و تخليقها بواسطة التركيز الكامل و الشامل ثمّ اكتشفت بعدها التكنيك الأساسيّ القادر على حثّ التجربة الذرويّة : عندما نكونُ في حالة ضجرٍ فإنّنا نسمح لطاقتنا الحيويّة الداخليّة أن تتسرّب خارجنا و عندها يبدو العالم لنا بغتة مكاناً كئيباً و مضجراً إلى أبعد الحدود المتصوّرة و كأنّ الأمر يتبع القاعدة التالية : عندما تكون حماستُنا الداخليّة واطئة فإنّ كلّ شيء خارجنا يبدو مضجراً ، و من جهة أخرى عندما نكون في حالة انتظار أمرٍ أو شيء يجلب لنا السعادة و يفجّر حماستنا الداخليّة - حتّى لو كان أمراً ضئيلاً مثل تناول وجبة عشاء جيدة – فإنً أمراً ما بداخلنا سيعمل على منع تسريب طاقتنا الداخليّة نحو الخارج و عندها يبدو العالم مكاناً مشرقاً و مفعماً بالحياة ، و بالاستناد إلى هذه الفكرة يمكن المضيّ في ممارسة حيلة صغيرة باستطاعتها أن تستحثّ في داخلنا حالة من الاستيعاب الممتع - عبر استخدام ماكنة الخيال الجبّارة - لحالة الانتشاء الناجم عن الحرية الداخليّة التي تقود إلى الحفاظ على طاقة حماستنا الداخليّة و منعها من التسلّل خارج ذواتنا .
يمكن تشبيه هذه الحالة الفريدة بحضور حفلة كونسرت و المكوث في حالة انتظار لمايسترو الفرقة حيث يكون هناك متّسع لتبادل الإشاعات و تشتيت الانتباه في أمور بعيدة عن الموسيقى تماماً ، و لكن ما أن يظهر المايسترو يتوجّه جميع الحضور بأنظارهم إليه و تختفي الهمهمة و اللغط فوراً و يغدو الجميع مشتركين في فعالية مشتركة واحدة .
يحدث عندما تغمرنا حالة الملل و الضجر أنّنا نشعر بانعدام أهمية كل شيء خارج ذواتنا ، و لكن ثمّة مغالطةٌ أساسيّة في هذا و هي ذات المغالطة التي بدأت بفهمها عندما قدتُ سيّارتي عائداً إلى منزلي في التجربة التي سبق و تحدّثت عنها : إنّ تركيز و تكثيف اهتمامي خوفاً من انزلاقي المفاجئ و الوقوع في فخ الخندق الجانبي خلق في داخلي ما يمكن تسميته " طاقة الملاحظة " ، و عندما استطعت أن أؤمّن نفسي من خطر الوقوع في هذا الفخّ صار بإمكاني الاسترخاء طوال الطريق و هو ما مكّنني من رؤية الخارج بعيون جديدة جعلتني أدرك كم أن هذا الخارج ممتع و باعث على الدهشة و هو الأمر الذي دفعني إلى التدقيق أكثر في خفايا الدهشة المستترة التي ينطوي عليها عالمنا ، تلك لا يمكننا ملاحظتها في الأحوال الاعتياديّة ، و يقود هذا الإدراك إلى زيادة جرعة الطاقة الإيجابيّة المختزنة في داخلي و هكذا تدور الأمور في حلقة من " التغذية الارتجاعيّة الإيجابيّة Positive Feedback " على عكس نظيرتها من " الطاقة الارتجاعية السلبية " حيث الضجر يولّد المزيد من الضجر !! ، و أعترف الآن أنّ الغرض الأسمى في حياتي كلها كان معرفة كيف أخلق هذه التغذية الارتجاعيّة الإيجابية بالفعل الإراديّ الواعي لا بانتظار ما تجود به علينا المصادفات المدهشة حسب .
* أبراهام ماسلو : عالم نفس أمريكيّ ولد عام 1908 و درّس في جامعات أمريكيّة عديدة مثل : كولومبيا ، برانديس ،،، و تعزى إليه نظرية التدرّج الهرمي للحاجات الإنسانية و له العديد من المؤلّفات منها ( الأديان و القيم و التجارب الذرويّة Religions , Values & Peak Experiences ) ، و قد أكّد في معظم كتاباته على وجوب التركيز على السمات الإيجابيّة للأفراد بدل التعامل معهم باعتبارهم سلّة من الأعراض السايكولوجيّة . توفّى عام 1970 .(المترجمة)

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram