فتحت نافذة الغرفة الصغيرة التي في الطابق الثالث عشر من العمارة حيث اسكن الشقة الواقعة في منتصف شارع (سخاروف) الذي يخترق ساحة هارا براك( ساحة الجمهورية) في عاصمة ارمينيا. كانت السماء قد أتت بنزلها مطرا خفيفا في الليل، لكنه استمر حتى ساعات الصباح المتأخرة. الشمس تطل على أرض الأرمن بين التاسعة والعاشرة صباح كل يوم وتخرج متعجلة قبل حلول المساء، لذا فالمارة أقلية نادرة، والشارع شبه خال إلا من متعجل يجلب فطوره أو من سائح يخشى الزمن فهو يختصره لكي يشبع عينه من المشاهد الأثرية والطرقات والمباني والساحات والأمكنة الأخرى ذات الطابع الروسي، الذي يغلب على المدينة كلها، فالسائق يقول بان أكثر من 95% مما مشيّد في المدينة وتراه من المباني العظيمة هو من أعمال الحكم في فترة الاتحاد السوفيتي السابق. ولكي يشعرني أكثر نفث حسرة طويلة.
لا تملك أرمينيا مالا وفيراً واقتصادها يُجمل بمصدرين لا غير هما الحجر والخمر، وما في أسواقها من فاكهة وخضار وغلاّت، من مصنوعات ومواد منزلية وما يستر عري الحياة في المنزل والشارع فهو مستورد من إيران وروسيا، وإلى اللحظة هذه تعتمد أرمينيا في وقودها على الغاز الروسي، لكن المدينة لا تقل شأنا بجمالها وأناقتها شوارع ومباني وساحات، عن العاصمة الغنية طهران، حيث النفط والاقتصاد القوي. وحين يتأمل أحدنا مشهدها هذا تكون المقاربة عصية بين بغداد والبصرة والمدن العراقية الأخرى، وبين العاصمة يرفان، لذا سنتأخر في القول لأن الفارق سيأتي على الإنسان حاكما ومحكوما هنا والإنسان هناك أيضاً. لا اعرف لم بدا لي أن الناس في أرض الله الواسعة يحبّون بلادهم أكثر منا، أتذكر احد الأصدقاء العراقيين المهاجرين والممنوحين الجنسية الأمريكية حين استوقفته امرأة ما في الشارع قائلة: أخرجوا من أمريكا لا تخربوها، لأنكم لم تحفظوا بلادكم، انتم تقتلون بعضكم هناك وهي تشير الى خريطة العراق. لا أريد أن أبدو متجهما أكثر فقد يتدخل مقص المحرر فيحذف بعضا مما أكتب خشية علي ربما، لأني عائد اليوم أو الغد للبصرة، لذا سأصمت عمّا صمت عنه غيري وأبهم كما أبهم غير واحد ،وأتأمل يرفان تأمل من لا يملك وطناً فهو يقتل نفسه حسرات، ويقطّع أحلامه آلاماً ودموعا، وسأدخل المكان الذي أحب، بعد تجوالي في السوق الكبير حيث يستعد أصحابه، مع بقية الأرمينيين للاحتفال بأعياد الميلاد المجيد، وقد تسلقوا واجهة المبنى لتزيينها بالورود والكرات الحمر وأقاموا الشجرة خضراء عالية عند المدخل الجميل.
وبما أني رجل يحب معرفة الناس من الناس، واختبار الحياة من خلال مفاصلها الألصق به، لذا سأستجيب لنداء روحي التي تتخذ من المطر والزهر والثلج والجبال مدخلا لكل ما هو ضاج وباهر وحيوي وأتأمل يرفان التي بدت لي أنثى من ثلج وشجر وجبال وأقول ها قد سقط المطر متأخرا على الأرض الأرمينية، غير أني سأترك الحديث عن الشوارع الندية والشجر بورقه الأصفر وهو يغطي الأرصفة ومداخل المطاعم والمتاجر الصغيرة، وسأدخل الديسكو الإيراني القريب من ساحة كاسكارد التي تعني ألف درجة، وسط العاصمة يرفان، وقد انتصف الليل وبدأت طلائع الشبيبة، فتية وصبايا بأعمار تختلف لكنها لا تتباين، طويلاً يطوقون المكان ذا الإضاءة الشحيحة راقصين مستبشرين بحلول الليل .
بيسر خالص يترك الفتية الإيرانيون طهران ومدنهم الجميلة ويدخلون يرفان ثم يقيمون بها، العمل هنا نادر وليس باليسير، لكنهم يدخلون فيقيمون، كنت ارقبهم من طاولتي، وهم يرقصون، يعرفون من الرقص أجمله ويشربون من الأشربة التي تقدمها صاحبة الحانة أكثرها قوة ودفئاً. ولم يكن الصخب الذي يحدثه الراقصون مانعا لي من تذوق موسيقى الإيرانيين. ذهب الزمن بالسيدات (كوكوش وكذلك بعايدة ومريم خانم) وحل بهم زمن موسيقى الديسكو والروك والراب. جيل إيراني يعتمد الرقص والموسيقى طريقا لفهم واستيعاب الحياة، وقد ضاقت شوارع وكازينوهات طهران ببعضهم فجاءوا. يقول مترجمي وهو يشير إلى صبيان، بدوا لي إنهم طلاب مدرسة ابتدائية بأعمار العاشرة، بأنهم طلاب مدرسة للرقص جاءوا للتدريب هنا، وقبل أن يبدأ برنامج الحفل أخرجهم مدربهم وغادروا.
يرفان أنثى، وكذلك طهران، وسر من أسرار الجمال والرقي والعمران هنا وهناك وفي باقي عواصم المدن خارج العراق، هو أن الناس فيها أشركوا الأنثى وقدموها في كل شيء. هل كانت الأنوثة إلا الحب والجذب والعناق والقبل والعذوبة والجمال؟ أو هل كانت الذكورة إلا الحرب؟
في يرفان المدنية أنثى
[post-views]
نشر في: 18 نوفمبر, 2014: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
محمد توفيق
الأرمن شعب صغير ومكافح، صارع طويلاً من أجل بقاء هويته، ودافع عن دينه المسيحي منذ الفتح الإسلامي وحتى نهاية الحرب العالمية الأو لى التي كانت أشد هولاً عليه مما سبقها من الكوارث حيث تعرضواالى الإبادة الجماعية بالملايين لأنهم مسيحيين أرثوذوكس، أتهموا بمولاة