أحاول في مناسبات عديدة وبقدر استطاعتي أن اشير الى الفنانين العراقيين الشباب، لأنهم أولاً يملكون طاقات ومواهب متفردة وتقنيات تؤهلهم ليكونوا في مقدمة المشهد التشكيلي العراقي ، وثانياً لأنهم بالفعل مستقبل البلد الفني ووجهه الثقافي الذي علينا أن نتباهى ونفخر به، فالفن بشكله الحقيقي لا يمكن ان ينهض أو يفتح طرقاً جديدة بدون أعمال الشباب الذين في العشرينات من أعمارهم على أن يمتلك هؤلاء ما يؤهلهم لهذا الدور ، وهذه الخطوة المهمة والحاسمة. العلاقات الاجتماعية التي يمكن أن تربط بين الأجيال المختلفة يمكنها أيضاً أن تؤثر على نوعية وحضور الفن بشكل عام، وقد لا يعرف الكثيرون العلاقات التي كانت تربط التشكيليين ايام الثمانينات والتسعينات وخاصة تلك التي ربطت بين الفنانين الأساتذة والشباب وكيف كانت الصداقات تتكون لتخلق جواً فنياً بعيداً عن الادعاءات وتضع كل واحد في مكانه الذي يستحقه. شخصياً ربطتني وقتها علاقات مدهشة مع الفنانين الأكبر سناً أو الاساتذة وبالتأكيد يأتي في المقدمة بالنسبة لي أستاذي وليد شيت الذي كان بالنسبة لي ومايزال أهم شخصية فنية التقيتها في حياتي وسأخصص له بالتأكيد مساحة تليق به في المرة القادمة . وكذلك هناك اسماعيل فتاح الترك الذي سأتحدث عن بعض الذكريات معه، هو الذي أثر بأعماله وشخصيته على عشرات الفنانين.
في إحدى أمسيات سنة 1991 بينما كنت جالساً مع بعض الأصدقاء الفنانين في نادي جمعية الفنانين التشكيليين، دخل الفنان الراحل اسماعيل فتاح الترك الى النادي وهو يضع يديه في جيبي بنطاله مبتسماً كالعادة حيث الجميع ينظر اليه بمحبة واحترام كبيرين. هو عموماً كان يأتي في أوقات متباعدة الى الجمعية، وفي نفس الوقت كان معروفاً بصداقاته وقربه من الفنانين الشباب، حيث كان يقول دائماً "أنتم مستقبل الفن في البلد". في ذلك المساء اختار أن يجلس على الطاولة التي أجلس عليها، وبعد مرور بعض الوقت طلب مني قلما وأوراقا، فتحت حقيبتي وأعطيته ما اراد، فبدأ يخطط لي بورتريتاً صغيراً وقد تجمع خلفه بعض الاصدقاء الذين تركوا طاولاتهم وبدأوا يراقبونه بفضول. انتهى من الرسم الأول وطلب مني أن أثبت مرة أخرى ورسم بورتريتاً ثانياً، كان مزاجه رائقاً وجميلاً وحين أن انتهى من الرسم أعطاني التخطيطين بعد أن وقع عليهما. بعد مضي ساعة أو أكثر طلب المغادرة فسألته أن كان يستطيع توصيلي في طريقه الى باب المعظم فوافق كما كان يفعل هذا ويوصل بعض الأصدقاء في كل مرة يأتي الى الجمعية. أثناء مرور السيارة قرب منطقة العلاوي طرأت فكرة أن نأكل شيئاً من العربات الواقفة المليئة بالأطعمة الليلية، كان متردداً بعض الشيء لكنه استجاب للفكرة .
مدّ إلينا الشاب الواقف خلف العربة أطباق المخلمة الوهمية (كنّا نسميها هكذا لعدم وجود اللحم فيها ) ووضع لنا الخبز على ورق مقتطع من صفحات مجلة. وبينما كنت أَهمُّ بالأكل سحبت الورقة من تحت الخبز وقربتها منه قائلاً "أنظر أستاذ اسماعيل ، هذه تخطيطاتي المنشورة في مجلة ألف باء نأكل عليها الخبز" ابتسم ثم ضحك بصوت مسموع، بينما صاحب العربة ينظر إلينا بريبة وهو يضغط بعكسِهِ على خاصرة الشاب الآخر الذي يساعده في غسل الأطباق ويسألني "معقول، هذا رسمك أنت في المجلة ؟" فأجبته "نعم فأنا أعمل رساماً في ألف باء" ثم أردفت قائلاً "هذه مسألة بسيطة، لكن هل تعرف هذا الرجل الذي يأكل المخلمة بجانبي؟ إنه أسماعيل فتاح الترك الذي عمل نصب الشهيد، هذا النصب الأزرق الكبير"، فما كان منه إلا ينظر الى مساعده ويقول له بصوت خافت "الجماعة شاربيلهم كل واحد بطلين بيره وكَامو يدعبلون علينه !!".
اسماعيل فتاح والمخلمة الوهمية
[post-views]
نشر في: 21 نوفمبر, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...