مدرسياً، علمنا بأن الاستقلال الوطني هو حكم البلد لنفسه أو ان يحكمه أبناؤه وان له علماً (وطنياً) ولايخضع لإرادة أجنبية. هذا المفهوم يتضمن الكثير من المفردات التي تحتاج الى قراءة نائية و التأكد من حقيقتها العملية. فإذا نظرنا الى (الأعلام – بفتح ا
مدرسياً، علمنا بأن الاستقلال الوطني هو حكم البلد لنفسه أو ان يحكمه أبناؤه وان له علماً (وطنياً) ولايخضع لإرادة أجنبية. هذا المفهوم يتضمن الكثير من المفردات التي تحتاج الى قراءة نائية و التأكد من حقيقتها العملية. فإذا نظرنا الى (الأعلام – بفتح الهمزة – العراقي والأردني ثم الفلسطيني والكويتي... نجد صيغاً متقاربة بتغييرات بسيطة تشعرك بان الحكومة البريطانية لبت طلب أولاء، فرسمت لهم رموزاً ووزعتها عليهم ونصبت أو ثبتت حكم حاكمين أو ملوك أو أمراء ، وانهم طيلة تاريخهم من التأسيس ،وحتى اليوم، ما استطاعوا أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم ، ولكنهم رهن مشيئة القوى الكبرى المهيمنة، واحدة مركزية، مثل بريطانيا الى حد قريب قبل أن ترث الهيمنة الولايات المتحدة وقوى اخرى مؤتلفة معها.
وحين بدأ عصر (الثورات) وهي مرحلة انتهاء صيغ حكم بفعل تقادم أو شيخوخة أو عزلة حاكمين أو فشل فحصلت (ثورات) لا أبرئ واحدة من خط أميركي فيها او انجليزي وفي أحيان فرنسي ايضاً، وحتى الأمني كما في العراق 1941. وسواء كانت ثورة أو انقلاباً أو كانت بالتسمية الصحيحة تهيئة حكم جديد لمرحلة جديدة قادمة، حفاظاً على المصالح واطمئناناً عليها.
وهذا ما كان بالنسبة للملك فاروق في مصر، الذي هربش وفسد ، وبالنسبة للملك السنوسي الذي امتصوا، من خلال الانقلاب عليه وابداله بضابط متحمس – القذافي -، امتصوا زخم النهوض القومي وتأثيرات عبد الناصر الوحدوية. وبغض النظر عن مدى سلامة ذلك الخط الناصري من الشوائب السياسية.. وكذلك بالنسبة لشاه ايران أو لبورقيبة الشيخ أو للعائلة الملكية ونوري السعيد عندنا.
لا مجال للحماسات والانحيازات الحادة، هي الأمور هكذا والتستر ليس في صالح التأريخ. وطبعاً الأغلفة أو الأغطية تختلف الواناً وأنواعاً لكن الحقيقة غير الواضحة اليوم تتضح غداً. المسألة الثانية ان الدولة المهيمنة والحاكمة الحقيقية من بعد، تدرب جنود هذه الدول المستقلة وتستدعي ضباطاً للدورات هناك وتحدد نوع السلاح المتواجد وحتى الأحلاف والمعاهدات خارج نطاقها مع الدول الأخرى هي تحت السيطرة والعلم، وإذا صمتت عن تجاوز يحصل، فإلى حين!
عملياً، نحن في عالم اختلفت علاقات دولهِ وائتلافاتها أو تعاونها. لم تعد الإمبراطورية البريطانية ودرة تاجها الهند والمستعمرات التي لا تغيب عنها الشمس ولا عادت فرنسا وسلطانها في الافريقيات وسواها من بلدان العالم وما عاد الكومونويلث كسابق ما كان ولا الفرنكوية بمحتواها السابق. إن هذه الدول ودولا كبرى بينها أحلاف عسكرية كالناتو مثلاً واتفاقات دفاع مشترك مثل وارشو القديم وحلف بغداد الأقدم منه (عسكري المضمون) والقادمات كثُر.
بهذا لم يعد لبريطانيا مثلاً زهو بانها دولة مستقلة ولا تفكر بهذا اصلاً لان لها علاقات احترام وتفاهم مع العالم وكذا المانيا الاتحادية علماً بان في البلدين اليوم قواعد اميركية نووية لا باعتبار ذلك سيطرة أو هيمنة أو نفوذاً ولكن لان القواعد النووية مراكز للدفاع المشترك عن اوروبا كما هي عن الولايات المتحدة وعن البلد المضيّف أو المؤجِّر.
التبجح الكبير المتضخم والفارغ هو في البلدان العربية التي ما عرفت الاستقلال الوطني الحقيقي يوماً: هنا فقط تسمع عبارات تبدو جوفاء في المنطق السياسي اليوم إن عبارات شعبية مثل "ولو شبر من تراب الوطن أو سيادة الارض العراقية"...الخ هي عبارات فيها شعور وطني لكنها من غير مضمون سياسي. لا أحد يذكر السماء هذه سماء باعتبار الوطن العراقي ارضاً بلا سماء أو ان السماء العراقية منطقة حرة....
مدى الاستقلال الوطني في مدى استقلاله، عفواً تكامله الاقتصادي، أي في اكتفائه وعدم الحاجة لمساعدة دول اخرى منحاً أو قروضاً ميسرة أو طويلة الاجل. عدم الاكتفاء الاقتصادي أو تكامله لا يوفران استقلالاً نقياً. استقلال دولة معوزة اقتصادياً فيه تضليل ومحاولة ترضية لكسب ود شعبها. على الضد من هذا الاكتفاء الاقتصادي يبقى البلد كفئاً في التفاهمات الدولية... في الايام الاخيرة من ظاهرة داعش المرسومة عالمياً وعلى وفق ستراتيج تغييرات في المنطقة، ستتضح بالتأكيد، أقول في هذا الوقت صرنا نسمع وطنيات عالية الصوت طيبة النوايا ومنها مجاراة ممن هم اصلاً يتعاطفون مع داعش او ممن يرددون محاذير ايران التي تخشى من جيوش أجنبية جوارها قد تهددها، هؤلاء يتزايدون في ألا يمس الجنود الأجانب قدسية الأرض العراقية، وكأنها لم تمس من قبل، لكن البلد مهدد وبعض مدنه محتلة والتهديد قائم والقوة الوطنية غير كافية أو هي تحتاج الى وقت طويل لكي تتمكن.....
الاستقلال الوطني، بمفهومه الكلاسيكي المعمر صار موضوعاً لا للتصويب والتطوير ولكنه صار موضوعاً سهلاً للمزايدات حتى ان بعض من رددهُ بتبجج كان يتعاطف مع داعش علناً . وداعش بعموم افكارها ليست مع الاستقلال الوطني وقدسية الارض العراقية... وأولاء جميعاً حسَن النية منهم والمتاجر، لم يعترضوا على السماء العراقية، هذه لا بأس والطيران الأجنبي حر وهو مؤتمن جداً. هكذا اللعب بالالفاظ؟ بقيت الارض فقط وكأن المسألة مسألة مواد بناء، تراب وحصى. إننا لا نسمح لجندي واحد لكن نسمح لآلاف المستشارين العسكريين علماً بان أهمية أو خطر أي مستشار عسكري يعادل عشرات الجنود الاعتياديين. هكذا تدخلنا الحماسات (الترضوية) في مغالطات فكرية واخلاقية لا اعتقد بان دولة عصرية ترتضي لخبطة في الافكار ذات الشأن، في المسألة الوطنية ودفع الخطر أو حماية البلاد،... ثمة معاهدات دفاع مشترك بين الدول ودفاع مشترك يعني دخول جيش وإلا فهل يكون الدفاع من وراء حاجز زجاجي أو من وراء البحار أو كما حصل مضحكاً لهم السماء ولنا الارض أو التراب والحصى؟، والغريب ان الثقافة الجماهيرية العامة ظلت تُغذّي بهذا المضمون القديم لمفهوم الاستقلال الوطني ولم يسمح لها بتلقي أي تغيير جوهري مما يجعلنا ناساً أبناء عصر واقعيين نعيش في العالم الذي تكونه دول ومصالح ودولة تتعاون مع، أو تعتمد على، دولة في هذا الأمر أو ذاك وسواء في الحروب والدفاع أو التجارة أو الكوارث الطبيعية.
الأميركان أو سواهم لا يدخلون حرباً لسواد عيون غيرهم ولا دولة في العالم تفعل ذلك. الدولة تعمل لنفسها وتخدم، أو تحارب من اجل مصالحها الآنية أو الستراتيجية المستقبلية. وانا لا احسن، ولا أحسنت الظن يوماً بالنوايا الاميركية. فبالنسبة للشرق الاوسط الهدف الاول هو حماية مصادر الطاقة وطرق الإمداد. هذه تظل موضع حرص ويقاتلون من اجلها حتى يجدوا وقوداً بديلاً وستتغير حينئذ أمور كثيرة...
لسنا بصدد مستقبل الطاقة ومستقبل البلدان المنتجة وأثر ذلك في الأحداث السياسية في المنطقة، لكني أريد القول باننا ملزمون إلزاماً بفهم سياسي جديد لقضايا العصر والعلاقات الدولية والتطور الدائم في المفاهيم. وأن نكون واقعيين موضوعيين اكثر مما نكون متحمسين خطأ ونحن نريد خيراً. لا مجال للحماسات القديمة في الظرف الجديد الخاص. نعم نُكبر، نحيي الذين يريدون سلامة الوطن وكرامته ونُجلُ المواقف المشرفة في ذلك لكن حين تحتل قوى طارئة مدننا ومساحات شاسعة من أراضينا، فنحنُ، وإن على مضض، نستعين بأقرب الأعداء، بالأقل عدوانية وأقل أذى وبشروط. لاعداء دائم مثلما لا صداقة سياسية دائمة. هناك دائماً اتفاقات على مصالح وهناك اختلافات على مصالح وشر أهون من شر .
لماذا لا نعترف باننا دولة غير متكاملة وانها في دور التقدم والتكوين لاستكمال مقوماتها علوماً ودفاعاً واقتصاداً؟ إذا استكملنا كل هذا فسنسهم في حضارة العالم وحلول مشاكله ونتبادل الخيرات والطاقات وتتعاون في الحروب والكوارث ومواجهة غير المتوقع. سيصبح لنا عند ذلك رأي كفء وحضور ندّي وكل على قدر طاقته في الإسهام. يصبح لنا رأي وفعل ولا اقول يصبح لنا نفوذ على الناس. اما ان شعوباً جائعة، الشحاذون في الشوارع وبين البيوت وفي عيادات الأطباء والمحطات، والتعليم بائس ونفرح ببناء مدرسة تنقلها الفضائيات كحدث، والمؤسسات الصحية تحبو في تقدمها والجيش يشكو ضعف التسليح وقلة التدريب والجهالة الادارية والفساد الذي صارت مكافحته شعاراً جديداً للدولة وخطة مستقبلية.....، في حال كهذه نقول نحترمكم لكن كفى استغلالاً فكرياً للشعوب، بما يبقيها في تخلفها وفيما يحول دون تقدمها، هذا التقدم الذي هو اصلاً ركيزة الاستقلال الوطني الذي يحرصون عليه. الحماسة الوطنية شرف لكن الفهم الواقعي لما يضمن سلامة الوطن وتقدمه هو شرف ايضاً. أما ان نقذف دولة نووية بالحجارة لنسقطها ونحن نعلم ان كل دولنا العربية تتراجع عنها أو تتعاون معها، والجيوش العربية تقرّ بواقعها فتظل متفرجة على الناس تتساقط بالنار الاسرائيلية، فهاذا ما يجب على العقلاء أن يعيدوا التفكير في جدواه وأن نحيل مقاومتنا المشروعة، والواجبة، الى مقاومة بأساليب حاسمة واكثر جدوى. علينا ايضاً بناء الانسان فكرياً ليستطيع مستقبلاً أن ينتصر على من احتل ارضه أو يرغمه على احترام حقوقه المشروعة ويعيش بسلام معه ومع العالم. للأسف الشديد نحن في مواسم استغلال الحماسات وتوظيفها.