يحكى أن رجلا يدعى (شنوربن قدوري) ،لم يكن لديه إحساس بالضيق من مهنته ، يكنّى بأبي(رابحة )، يعمل إسكافيا ، كرّس حياته بعيداً عن أي امتياز اجتماعي أو وظيفي، عاش بفيض من البراءة البيضاء التي تخفي عذابات عميقة ، مع اعتداد بالنفس .حاول ذات مرة في أيام خلت
يحكى أن رجلا يدعى (شنوربن قدوري) ،لم يكن لديه إحساس بالضيق من مهنته ، يكنّى بأبي(رابحة )، يعمل إسكافيا ، كرّس حياته بعيداً عن أي امتياز اجتماعي أو وظيفي، عاش بفيض من البراءة البيضاء التي تخفي عذابات عميقة ، مع اعتداد بالنفس .حاول ذات مرة في أيام خلت من خمسينات القرن الماضي ، أن يجرب حظه ببطاقة يانصيب ،وهو يرى تدافعا على بائع البطاقات، كانت الفكرة بمضمونها، إنسانية الهدف ، بحجم الأحلام الضائعة لأولئك الباحثين عن أمل في الحياة.
يشغل شنور ركنا قصيا من السوق، العابر من أمامه لايمتلك إلا أن يحبه ويأنس اليه ،هاتان الصفتان مشوبتان دائما بشيء من المرح الجميل، وهوقادر على اخفائهما بتلقائية يحسد عليها حقا، لقد مثل نموذجا للانسان المتمرد مقبلا على الحياة دون ابتذال او عزلة، مكتفيا، منسجما مع واقعه يمتلك من المواصفات ، ما لا تتكرر عند سواه، يضفي على الجلسات الكثير من اللطف وخاصة عندما تبلغ به النشوة اقصى مدياتها فيقضي وقته بلذة جنونية سريعة سائحا في دنيا الهيام بما يسلب عقله.
لم يستسلم ابو رابحة لليأس وهو يجوب شوارع مدينته بأحلام شاردة ، مقبلا على الحياة بأمل جذاب، وظفر بأول بطاقة يانصيب اشتراها بربع دينار، لتهفو نفسه الى السعادة والطمأنينة. لم يحطم عدّة عمله ، لكنه انصرف عنها ليجوب شوارع مدينته في الليل إذ يلفها صمت عميق ، لاتحرس أهلها سوى أضوية خافتة لمصابيح تجاهد من اجل البقاء ،وصافرات عسس ليلي متعب يداهمهم النعاس،تتعثرخطاهم في شوارع تعاني من لوعة الطين والمياه الراكدة ، كل ذرة تراب فيها تتلوى من جوع وأنين ، شرفات بيوتها فارغة ومعتمة. للمدينة دفء ليالي مطيرة ونخل يتهادى مع ضفاف الغراف ،المنساب بحياء نحو الجنوب، تعانق العصافير سعفاته الطوال، والقوارب الصغيرة تعرف مراسيها ، بينها وبين الضفاف لقاء طيور تهاجر أفراحها, شيوخ المدينة يحملون صناديق أسرارها القديمة إذ لا يخفون حكايات القوارب تلك، حكايات سكان الأهوار(الشكون) وهم ينقلون القصب والبردي أيام الصيهود ، والخلال المطبوخ، و(الخريط) برحلة شاقة، يجرون بأكتافهم تلك القوارب المحملة بالعناء والغناء، دون أن تتولاهم رعدة خوف من ريح وعواصف وسموم قيظ.
في ساعات الصباح الأولى ينتشر القرويون الملثمون بالتراب، سوق المدينة الوحيد ، الممدد كتابوت وسط المدينة وهم لايعرفون وشمها ولغتها وتاريخها السومري ، يندفعون بنهم لمطعم (خصاف) للكباب ، شنور يتابع خطواتهم المنهكة الشاحبة ، يبحث عن نساء الغجر الذين ضربوا خيامهم في اطراف لاتنأى بعيدا عن بيوت المدينة ، نشوته تتمثل دائما في ان يظفرقلبه بـ (ريم )ضالته المنشودة ، وظل يدمن هذا الداء الذي جعله يترع من السكر ، لقد صمم على عدم العودة لرتابة الحياة مرة ثانية ، أراد إن يخلق من عالمه رموزا جديدة تدفعه الى الحركة الحية.
لم تغير البطاقة من ملامح (شنور) الانسانية ،حتى ولم تشغله عن الاستغراق في ممارسة آدميته وإحساسه بوجوده ، كان يندفع في طريقه الى نهايته دون ان يتوقف، لم تزلزل الاف الدنانير كيانه... انه يبحث عن معنى الحياة ، وإن كان هذا السؤال لايخلو من عبث ،كان يغنم من الحاضر غير آبه بنصائح الأهل والمقربين منه كي يحفظ الفلس الأبيض لليوم الأسود، وهم يتطلعون اليه بعيون مندهشة ، متسعة، بانتظار ما سيقول، فيأتيهم الصوت :
ما معنى ان نحيا ؟ أيمكن ان نتمثل معنى الحياة في الثراء والجاه ، دعونا نتشبث بها ونغنم بإنسانيتنا ، وتبا لركام الدنانير التي لاتمنحني السعادة واللذة. لم تمض سوى أسابيع قليلة ، عاد شنور الى دكة دكانه ، يهمس الى زبون تنحى قليلا من تراب تطاير عن نعل يابس ابدع شنور في معالجته:
لم تكن تجربة خائبة، ولم اكن مغفلا، لكنني اجتهدت، فالمياه الآسنة اكتسحت دعاوى الحرية والتمرد.