TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > بين التهجير الناعم والتهجير بالسلاح

بين التهجير الناعم والتهجير بالسلاح

نشر في: 25 نوفمبر, 2014: 09:01 م

2-2

ولمواصلة الحديث مع القارئ سعيد فرحان وتعليقه على عمودي "أطول ليلة في حياة ليال"، الذي تحدثت فيه عن مشاهدتي لفلم وثائقي يتحدث عن تهجير عائلة لبنانية من برلين، أكمل قصص التهجير والقلع في العراق والتي تحدثت عنها في عمود الأسبوع الماضي، طبعاً يمكن ذكر عشرات القصص من هذا النوع، لكن بعضها حمل أكثر من معنى، لأن التهجير بدأ يأخذ منحى آخر. اليوم يأتي أوغاد "إسلاميون" جدد، يقتلون الناس، لا يهجرونهم، بل يذبحونهم مباشرة. تقول إحدى مهجرات تلعفر، أنها نسيت ولداً لها بعد نزوحها، عندما اتصلت بجارتها لتطمئن عن ولدها، "فرد زوجها على الهاتف، وقال إنه وجد الطفل وذبحه، وأخبرني ان بإمكاني أن أرجع لآخذ رأسه" (العالم 26 آب 2014).
ألا يكون القلع في هذه الحالة، في حالة مقارنته بذبح الطفل من قبل الجار، هو "تهجير حريري"، كما في حالة القارئ صاحب التعليق نفسه، بل وحتى في حالة قلع وتهجير مسيحيي المسبح والعرصات، الذين ضُربت كنائسهم وهُددوا بالقتل، ثم جاء حيتان "الحواسم" وابتلعوا أملاكهم؟
بالضبط هذا ما أردت الوصول اليه. إن كل قصة، كل ألم، كل حيف، كل ظلم، هو نسبي. مشكلتنا نحن في العراق، نظن أننا دائماً ضحايا، وأن ما حصل لنا لا يمكن مقارنته بما حصل لشخص آخر. أنا نفسي عندما رأيت صوراً لصدام حسين وعصابته في سجنهم، وكيف أنهم عوملوا، قلت لنفسي، ماذا عن سجني أنا في سجن الاستخبارات في بناية وزارة الدفاع ببغداد في شباط 1980؟ كنا قرابة 70 شخصاً في غرفة صغيرة مساحتها 30 متراً مربعاً ربما، معتمة، لا يدخلها ضوء أو كهرباء، عدا التعذيب والركل اليومي، كنا لا نستطيع النوم إلا بالتناوب مع بعض، قسم يقف، قسم يجلس، قسم ينام، وهكذا... لا يعرف بنا أحد. أليس سجن صدام في هذه الحالة هو سجن خمسة نجوم، مقارنة بسجني أنا؟
الألم الذي عشته أنت، عزيزي سعيد فرحان، حقيقي، نعم مؤلم، ومدمر. لكن ألم البنت هذه التي هجرت بطريقة "ناعمة" أيضاً حقيقي. المآسي التي يعيشها البشر هي واحدة، لكنها نسبية حجم الزمان والمكان. وفي بلدان "دولة القانون" (أقصد دولة القانون الحقيقية غيرها التي في العراق) تصبح المشكلة أكبر، لأن القانون هناك يحمي الجميع، وعندما تدوس جهة ما من الدولة على القانون (وزارة الداخلية في حالة العائلة اللبنانية)، يعترض المعترضون. تلك هي ميزة المجتمع المدني، تنظيم الناس لأنفسهم، لهذا نجد فيلماً في المانيا يفضح ما قامت به أجهزة الشرطة بتهجير العائلة هذه، ولا نجد فيلماً عن تهجير القلع في العراق، في النهاية انتصرت العائلة المهجرة وعادت إلى المانيا، لأن القانون وقف إلى جانبها، فهل قلت لي، أي قانون في بلاد "شريعة الغاب" سيقف إلى جانب المهجرين في العراق؟
أختي لم تعد إلى بيتها حتى اليوم، وأنت عزيزي المعلق، سعيد فرحان، أظنك أنت الآخر حصل لك نفس الشيء، لم تعد إلى بيتك. والأم التي ذُبح طفلها في طوزخورماتو لا تستطيع لا العودة إلى بيتها ولا إلى تقديم القاتل حتى إلى المحكمة، وأنا لا أستطيع أن أسترجع حقي لسجني وتعذيبي في أقبية مديرية الاستخبارات العامة، وليس من الغريب إذا عرفت أن الجلاد الذي تعذبت على يديه تبوأ مركزاً مهماً في الدولة أو وزارة الدفاع؟ الألم نسبي، ومثله امتهان القانون.
في دولة يحكمها القانون، يمكن للمرء التعويض عن ألمه، نسيانه، كما حدث للعائلة اللبنانية المهجرة في المانيا، لكن في دول تستخدم كلمة القانون مثل قانون الخردة فروش، كما في "دولة القانون" العراقية، يصبح غياب القانون هو القاعدة التي لا تعرف الاستثناء. القانون السائد في العراق – رغم أن ذلك ليس بجديد - هو قانون واحد: شرعنة ثقافة الغنيمة. وإذا كنت تسألني هذا يحدث في الحرب الطائفية وحسب، فأقول لك، كلا، هذا حدث بالأمس ويحدث اليوم، وعلى كل المستويات. الناس كلها تشترك في الغنيمة، من رأس الدولة وحتى اصغر فرد. خاصة بعد عام 2003 حين تحول العراق إلى بلد الحرامية والقلع والتهجير رقم واحد في العالم. ثقافة الغنيمة هي الثقافة السائدة اليوم في العراق. وسعيد الحظ من سُرق من قبل جاره فقط، وليس من أخيه الذي تربى معه في نفس البيت. وذلك هو الألم الذي لا يعوض عنه قانون. والدولة الاسلامية وغيرها من الذين يقتلون ويقلعون باسم الإسلام والحق هم نتاج لهذه الأخلاق.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

أرنولد: فخور باللاعبين وكأس العرب بطولة رائعة

المنتخب العراقي يودع بطولة كأس العرب من الدور ربع النهائي

الأنواء الجوية تحذر من ضباب كثيف غداً السبت قد يسبب انعدام الرؤية

وزير خارجية لبنان: تحذيرات عربية ودولية من عملية إسرائيلية واسعة

(المدى) تنشر تشكيلة العراق أمام الأردن في كأس العرب

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

 علي حسين دائما ما يطرح على جنابي الضعيف سؤال : هل هو مع النظام السياسي الجديد، أم جنابك تحن الى الماضي ؟ ودائما ما اجد نفسي اردد : أنا مع العراقيين بجميع اطيافهم...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان البحر الاحمر فسيفساء تتجاور فيها التجارب

 علاء المفرجي في دورته الخامسة، يتخذ مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي شعار «في حب السينما» منهجًا له، في سعيه لإبراز هذا الشغف الكبير والقيمة العليا التي تعكسها كل تفصيلة وكل خطوة من خطواته...
علاء المفرجي

لمناسبة يومها العالمي.. اللغة العربية.. جمال وبلاغة وبيان

د. قاسم حسين صالح مفارقة تنفرد بها الأمة العربية، هي ان الأدب العربي بدأ بالشعر أولا ثم النثر، وبه اختلفت عن الأمم التي عاصرتها: اليونانية، الفارسية، الرومانية، الهندية، والصينية.. ما يعني ان الشعر كان...
د.قاسم حسين صالح

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

جورج منصور في عالمٍ يتسارع فيه كلُّ شيء، ويكاد الإنسان أن ينسى نفسه تحت وطأة الضجيج الرقمي والركض اليومي، يظلُّ (معرض العراق الدولي للكتاب)، بنسخته السادسة، واحداً من آخر القلاع التي تذكّرنا بأن المعرفة...
جورج منصور
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram