لا يبدو المشهد الذي ترسمه لقطة، صوّرها الفنان المسرحي عبد الجبار الجنابي، وسط شارع الرشيد ببغداد، الجمعة الماضية، الا تجسيدا لخراب المكان وحيرة البشر، فالمطرح الذي كان قلب بغداد الى حين قريب، لا يبدو أقرب الى الهدم وحسب، بل هو يلفظ انفاسه الأخيرة، حت
لا يبدو المشهد الذي ترسمه لقطة، صوّرها الفنان المسرحي عبد الجبار الجنابي، وسط شارع الرشيد ببغداد، الجمعة الماضية، الا تجسيدا لخراب المكان وحيرة البشر، فالمطرح الذي كان قلب بغداد الى حين قريب، لا يبدو أقرب الى الهدم وحسب، بل هو يلفظ انفاسه الأخيرة، حتى ان الصورة تبدو في "غرائبياتها" بعيدة عن المعنى الذي شكله "شارع الرشيد" عميقا في روح بغداد وتاريخها المعاصر.
لنتوقف عند أعمدة الشارع المائلة، على يمين الصورة، لتشكل هيئة اقرب الى التداعي والانهيار، في محاكاة لحال المكان البغدادي الاثير، وهي تعكس المسار "المائل" لسلطات عراقية حاكمة، منذ النظام الديكتاتوري الذي احتقر روح عاصمة بلادنا، عبر ثقافة عنيفة، وخشنة عمادها قيم الريف والبداوة، وصولا الى انحطاط قيمي حالي، تتوفر عليه السلطة الحالية التي لم تحتقر شيئا قدر احتقارها للروح المدنية في عموم البلاد، وفي بغداد على نحو الخصوص.
وفيما باتت تسمية "لجان التحقيق" رديفة التضليل في قضايا تمس جوهر الحياة الانسانية في البلاد، فان "لجنة تطوير شارع الرشيد" وعلى الرغم من تشكيلها قبل فترة، ليست بأحسن حالاً من تلك اللجان الخادعة المضللة، التي تؤكد نقيض اسمها ومعناها، والإ ما الذي قدمته هذه اللجنة من اجل إنقاذ قلب بغداد من العفن والتلوث والهدم المتواصل؟
وثمة من يرى في المشهد، معلما لخراب، أدهى من خراب المكان، هو المركز الإنساني الذي تشكله سيدة تتوسط الشارع، كأنها في حيرتها، حيث يمر العابرون، تؤكد: من يترك المكان نهبا للخراب والوحشة، لن يتوقف عندها وهي كندبة من ضمير حي على وجه عصر آثم بشكل كلي، حتى وإن تزين برايات "الشهادة الحسينية" التي لا يتردد الفاسدون من جعلها غطاء لنهبهم المتواصل، لا لموارد البلاد وحسب، بل لكل معنى شريف وحي في المكان والانسان، ذلك انه معنى نقيض سيرتهم وحياتهم ووجودهم.
واذا كانت اعمدة شارع الرشيد المائلة تكشف عن سيرة سلطة "مائلة" عن قيم النزاهة والبناء، فان سيدة السواد الكريمة، لتشكل وصمة عار سوداء في جبين السلطة الحالية وأركانها الاخلاقية والفكرية، وتهز، وهي السيدة الضعيفة واهنة الجسد، أركان دستور يسقط هنا سقوطا مدويا، ويجعله فارغا من اي معنى، مثلما تسقط عن هذا الحكم، اي ورقة توت يحاول بها ستر عريه الاخلاقي التام.
ايتها السيدة، انك في قلب مكان كان ينتمي الى جوهر حي، يوم كان هناك شيء من روح بناء ونزاهة ووطنية، وكان لمن هم في حالك سياق ثقافي وانساني يبقي لهم ما يستحقون من كرامة.
ايتها السيدة ، كان هناك كاتب عراقي اسمه فؤاد التكرلي، وضع عنوانا لواحد من كتبه، هو "بصقة في وجه الحياة" ولا أظن ان هذا العنوان سيكتسب معناه الحقيقي، الا في راهن بلادنا، ومنه يأتي مشهدك هذا، بصقة في وجه حياة قبيحة تعيشها بلادنا اليوم.