وارد بدر السالم كثير من العراقيين هاجروا الى خارج العراق عبر أربعة عقود. وقلة قليلة عادت بعد وهم استتباب الأوضاع الأمنية، وما يزال نزيف الهجرة مستمراً ويبدو أنه لا يتوقف حتى إشعار آخر. ولا نريد هنا أن نقف على أسباب الهجرة الكبيرة التي حدت بالعراقيين على أن يتركوا الوطن فقد باتت معروفة.
لكن ما نريد استيضاحه بشكل مباشر هو المدى الممكن الذي يستفيد منه المواطن العراقي عندما يكون في الخارج. والخارج هنا أوروبا أو بعض الدول العربية المجاورة وغير المجاورة. قد لا يكون الاستيضاح على قدر من الأهمية على اعتبار أن المواطن هاجر مرغماً، ويحتاج الى وقت طويل للتآلف مع المكان ومعاينته واستيعابه، وبالتالي التفاعل معه، ومن ثم تقدير ماهية الاستفادة من طبيعته، وهي طبيعة تختلف عن الداخل العراقي حتماً. لكن المواطن ليس وزيراً أو نائباً ولا محافظاً ولا قائداً في الجيش. بل هو مسافر خانته الأيام والظروف فالتجأ الى الآخر، طلباً للحماية الذاتية والأمن والسلام الممكن. كثير من وزرائنا وبرلمانيينا عاشوا في الخارج، وتطبعوا بطبيعته، وعرفوا اسراره، و» تفاعلوا « معه كلاًً على طريقته وحسب « علاقته « بالمكان، وسنترك ما هو خافٍ في علاقة الآخرين بالمكان، فهذا شأن يُدخلنا في السياسة السرية ومشتقاتها الكثيرة. لكن ما نتطلع اليه ونتساءل عنه هو: هل انعكس الخارج على الداخل بطريقة حضارية؟ بمعنى هل أن وزراءنا وبرلمانيينا ممن عادوا الى العراق بعد 2003 نقلوا شيئاً من تجارب الشعوب والأمم الى العراق من كل المنافذ والنوافذ الممكنة؟ وللتوضيح.. فالمسؤول الذي عاش في أوروبا مثلاً نعتقده قد استوعب الحياة النظيفة هناك وتفاعل معها واندغم مع كيانها العام، بل صار جزءاً من آلتها اليومية، نفسياً واجتماعيا واقتصادياً وسياسياً وثقافياً وسلوكياً، وعندما يكون في موقع متقدم في بلده بعد عودته، نعتقد أيضاً أن شذراتٍ كثيرة يمكنها أن تكون صالحة في المجتمع العراقي، فالآخر ليس سيئاً كما يفسره البعض، فالتحضر من سمات الشعوب التي سبقتنا في ميادين مختلفة، وهذا ما نجده في السلوك اليومي لها. وليس هناك من ضير أن يكون المسؤول الحكومي أو البرلماني قد تماثل مع كل حالة إيجابية وسلوك راقٍ وخدمة اجتماعية يمكنها أن ترفد المجتمع بالكثير من الروافد الحضارية الجديدة التي لم تصلنا بسبب عزلة العراق العالمية منذ أربعة عقود تقريباً وإدخاله في أزمات الحروب والكوارث الكبيرة. العائدون الى الوطن من شوارع أوروبا تفجعهم تخسفات شوارعنا وأرصفتها. العائدون من كل مكان بعد اغتراب طويل، وجدوا بغداد مكباً للنفايات ومرتعاً للصوص والخارجين عن القانون. وجدوا العاصمة العظيمة مهجورة الى حد ما، يفترعها الخوف والرعب من المجهول. تتناهبها سكاكين الجزارين والبلطجية. العائدون وجدوا الوطن خرابة من خرائب العصر الحجري، وقد تغيرت خريطته الجميلة.. العائدون القليلون هزتهم مشاهد الدمار والقتل اليومي والسلوك المحبط للكثير من مظاهر الحياة..العائدون الأبديون أو الذين يجدولون زياراتهم الى بغداد والمحافظات، لن يجدوا أصابع المسؤولين الحكوميين ولا البرلمانيين وقد رسمت مظاهر تحضر أولية هنا أو هناك؛ لاسيما في العاصمة بغداد مدينة السلام والجمال والحضارة الآفلة.. لا شىء يوحي بأن هناك خرائط حضارية جديدة للمدينة، لا في شوارعها ولا في أسواقها ولا في منافذها السياحية.. وسيفهم العائدون أن الأوضاع الأمنية هي السبب،وهذا السبب يُبطل أي عجب..فلا تكونوا بطرين أيها العائدون الى الوطن..!!
بطر حضاري
نشر في: 12 ديسمبر, 2009: 04:55 م