ايفان الكساندروفيتش غونتشاروف ( 1812 – 1891 ) ( ويكتبون لقبه بعض الأحيان غونجاروف ) – أديب روسي كبير في القرن التاسع عشر يكاد ان يكون مجهولاً للقارئ العربي تقريبا , ولا نجد اسمه مع الأسف بين أسماء الأدباء الروس الكبار المعروفين للعرب , بل
ايفان الكساندروفيتش غونتشاروف ( 1812 – 1891 ) ( ويكتبون لقبه بعض الأحيان غونجاروف ) – أديب روسي كبير في القرن التاسع عشر يكاد ان يكون مجهولاً للقارئ العربي تقريبا , ولا نجد اسمه مع الأسف بين أسماء الأدباء الروس الكبار المعروفين للعرب , بل ولا حتى بين شبه المعروفين ايضا , و من اجل ان تكون الصورة واضحة للقارئ – بشكل أو بآخر - فانه يجب علينا قبل كل شيء ان نتناول سيرته الذاتية و ونتحدث عن مكانته المتميزة وأهميته في تاريخ الأدب الروسي ومسيرته ولو بسطور وجيزة , رغم اننا نريد ونهدف التركيز في هذه المقالة – وحسب عنوانها - على ظاهرة فذٌة ومتميّزة جدا ترتبط باسمه فقط لا غير بين كبار الأدباء الروس في القرن التاسع عشر.
وتكمن هذه الظاهرة في المصطلح الروسي الذي دخل الى اللغة الروسية عندها( ولا زال موجودا ) اشتقاقا من عنوان روايته – ( أوبلوموف ) , والمصطلح هذا هو – ( اوبلوموفشينا ) باللغة الروسية , والذي يمكن التعامل معه وفق الصياغة العربية للمصطلحات و بالتالي ترجمته بـ – ( الأوبلوموفية ), على الرغم من ان اللاحقة في نهاية المصطلح بالروسية وهي – (...شينا ) تعني هنا ( و في بعض الحالات الاخرى ) صفة سيئة وسلبية بعيدة جدا عن كل الصفات الجيدة و الإيجابية , ومن الصعب ان نجد لها الرديف او المقابل العربي الذي يمكن له ان يعبّر عن هذا المعنى الدقيق دون شرح تفصيلي اضافي للمصطلح هذا وتفسيره, ولكننا قبل الحديث بشكل تفصيلي - قدر الامكان طبعا - عن هذه الرواية وقيمتها والمكانة التي شغلتها آنذاك والتوقف عند المصطلح الذي انبثق منها , نود ان نعود الى ما ذكرناه في بداية مقالتنا هذه ونبدأ بالتعريف العام والوجيز طبعا حول هذا الكاتب الكبير ومكانته وأهميته في تاريخ الأدب الروسي في القرن التاسع عشر .
ولد غونتشاروف عام 1912 في عائلة تجار بمدينة سينبيرسك , وهي فئة غنية في روسيا حاولت ان تشغل مكانها جنبا لجنب مع فئة النبلاء في المجتمع الروسي آنذاك رغم انها كانت أقل ثقافيا من مستوى النبلاء , وتلقى غونتشاروف تعليمه في البيت والأجواء المحيطة بالعائلة كما كانت تجري الأمور عندها , ثم درس في مدرسة بموسكو , ثم التحق في كلية الآداب بجامعة موسكو عام 1831 , وهناك بدأت شخصيته بالتبلور, اذ انه التقى بالكثيرين من الشباب المنتمي الى مختلف الجمعيات او التجمعات الفكرية المختلفة , وهي ظاهرة كانت واسعة , بل طاغية جدا آنذاك بين الشباب الروسي , وعلى الرغم من اختلاطه وتعايشه معهم وتعامله اليومي مع أعضاء هذه المجاميع ذات الأفكار المتنوعة وصداقته القريبة مع العديد من المنتمين اليها ,الا انه لم يرتبط باي من هذه التجمعات وبقي بمنأى عنهم جميعا وخارج نطاق جمعياتهم , ويمكن الآن ان نطلق عليه المصطلح المعاصر – ( المستقل ) او بتعبير اكثر دقة - ( اللامنتمي ) بالنسبة لذلك العصر العاصف في تاريخ روسيا .
بعد التخرج رجع غونتشاروف الى مدينته لفترة زمنية قصيرة ثم قرر الانتقال الى بطرسبورغ , وهناك تم تعيينه مترجما في وزارة المالية , وابتدأ بالنشر والاختلاط بالأوساط الثقافية والتعامل معها واصبح بعدئذ صحفيا شهيرا و لامعا , وصدرت روايته الأولى والتي كانت بعنوان - ( قصة اعتيادية ) عام 1846 , وقد ابدى الناقد الأدبي المعروف بيلينسكي نفسه إعجابه بهذه الرواية , وكان في ذلك الوقت في قمة مجده وكان الرأي الذي يبديه مؤثرا جدا في الأوساط الفكرية طبعا , وقد تعارفا مع بعض نتيجة لهذا الموقف , ولكنهما لم يصبحا صديقين حميمين , اذ لم يتقبل غونتشاروف مواقف بيلينسكي المتطرفة بشأن تأييده المطلق للأفكار الثورية الغربية ولم يعجب بها, و من جانب آخر لم تعجب بيلينسكي كذلك أفكار غونتشاروف المعتدلة جدا, بل والحذرة أصلا , وأطلق عليه بيلينسكي بعدئذ تسمية ( فيليستير ) الألمانية ومعناها الانسان المحدود الأفق والمرائي في تصرفاته , وهي تسمية مهينة طبعا ( رغم ان بيلينسكي حاول ان يخفي معانيها المباشرة باستخدامه كلمة المانية ) , وتعكس هذه التسمية طبعا موقفا غير متوازن في حالة الاختلاف في الآراء بين اثنين من الكتّاب وتبين بلا شك التطرف الذي كان يتميز به بيلينسكي بشكل عام , رغم ان غونتشاروف لم يهاجم موقفه الفكري هذا آنذاك ولم يتحدث علنا عن ذلك الاختلاف في الآراء بينهما, ويمكن القول ان هذا التباين بينهما والاختلاف في الآراء يعد موضوعا كبيرا وطريفا في تاريخ الفكر الروسي ويقتضي بلا شك التوسع والتعمق في دراسته وتحليله والكتابة عنه , خصوصا وان غونتشاروف كتب في أواخر حياته مقالة مشهورة في تاريخ النقد الأدبي الروسي عن بيلينسكي , إلا أن ذلك لا يدخل ضمن أهداف مقالتنا .
روايته الثانية صدرت عام 1859 وكانت بعنوان – ( أوبلوموف ) , والتي كتبها على مدى سنين طوال , والتي نريد ان نتوقف عندها هنا . عنوان الرواية يحمل اسم بطلها كما هو واضح , وهو أسلوب مشهور في تاريخ الأدب الروسي استخدمه الأدباء الروس منذ القرن الثامن عشر وثبّته بوشكين نفسه في روايته الشعرية المعروفة – ( يفغيني اونيغين ) . مضمون رواية غونتشاروف بسيط وغريب جدا في نفس الوقت , ويتمحور حول بطلها الرئيسي اوبلوموف - الكسول حد القرف , ويصوره غونتشاروف في الجزء الاول من الرواية وهو مضطجع على سريره ولا يغادر البيت أبدا ولا يؤدي اي عمل سوى الثرثرة والكلام الفارغ . ويحاول احد أصدقائه ان ينقذه من هذه الوضعية و يجبره ان يخرج الى الحياة ويعرفه بأناس آخرين وبفتاة تصلح ان تكون زوجة له , ولكن كل محاولاته تفشل في نهاية المطاف , وتنتهي الرواية بزواج اوبلوموف بفتاة اخرى وبوفاته وهو يوصي صديقه برعاية ابنه الوحيد من زواجه ذاك , وهناك طبعا تشعبات ثانوية في أحداث هذه الرواية ومسيرتها مثل دور خادمه في البيت وحياته وزواجه , ودور شقيق زوجته الذي أراد ان يخدعه ويسرق أمواله , ودور صديقه الذي يتزوج في النهاية من الفتاة التي كانت مرشحة ان تكون زوجة اوبلوموف نفسه الى آخر هذه المشاهد والأحداث , إلا أن كل ذلك لا يعني تغييرا في مسار هذه الرواية وسماتها الأساسية و خصائصها وأهدافها . ان هذه الحياة الباهتة والفارغة والتافهة والكسولة والتي تسير بلا هدف لإنسان لا يعرف حتى كيف يتصرف بملكيته من الارض وعبيدها و التي ورثها , هذه الوتيرة من الحياة وإيقاعها والتي يحياها اوبلوموف يوميا تكاد ان تخنق القارئ , بل هي تخنقه فعلا , وتؤكد بما لا يقبل الشك بتاتا ان هذه الفئة من البشر , اي طبقة النبلاء الذين ورثوا كل هذه الثروات من الأرض وعبيدها لم يعودوا صالحين للحياة والاستمرار بالتعامل مع مجتمعهم , وان زمنهم وتأثيره على حياة الآخرين , بل وحتى وجودهم نفسه قد انتهى الى غير رجعة وللابد في بلدهم وبين أفراد شعبهم . ومن هنا انبثق المصطلح الذي اشرنا اليه أعلاه وهو – ( اوبلوموفشينا ) او ( الابومولوفية ) والذي أشار اليه الناقد الأدبي الروسي الكبير نيقولاي الكساندروفيتش دوبرولوبوف ( 1836 – 1861 ) في مقالته المشهورة عن هذه الرواية وانطلاقا من تسمية بطلها , هذا الناقد الأدبي الذي عاش ستاً وعشرين سنة ليس الا وتوفي بمرض السل وترك إرثا أدبيا وفكريا هائلا في تاريخ الأدب الروسي واصبح واحدا من كبار النقاد والباحثين في مسيرة هذا الأدب ورواده , والذي صدرت هذه الرواية بتقديمه طوال عشرات السنين وصولا حتى في اصداراتها بالقرن العشرين في الاتحاد السوفيتي .
رواية غونتشاروف الموسومة - (اوبلوموف ) تشغل مكانة مهمة وكبيرة في تاريخ الأدب الروسي لأنها تشكل حدثا واضحا ومتميزا في تاريخ هذا الأدب , بل و تاريخ روسيا نفسها, ويربط بعض الباحثين الروس حتى بين صدورها عام 1859 وبين صدور قانون الغاء حق القنانة في روسيا عام 1861 , ويشيرون الى ان هذه الرواية هي الإعلان في تاريخ الأدب الروسي عن قانون الإلغاء المذكور . و الرواية هذه – وباختصار- تقتضي منا – نحن العرب – ان نترجمها الى لغتنا العربية حتما وندرسها ونستوعبها , كي نحدد قيمتها الفنية و التاريخية من اجل ان تساعدنا لاحقا على فهم تاريخ روسيا بشكل صحيح وموضوعي.