TOP

جريدة المدى > عام > أدونيس وفوبيا الانقراض

أدونيس وفوبيا الانقراض

نشر في: 30 نوفمبر, 2014: 09:01 م

يظل مشروع أدونيس الشعري والفكري مثارا للكثير من الأسئلة، لاسيما تلك التي تتعلق بشقاوة وعينا، وبمنظورنا لموجهات التاريخ المتحف والتاريخ الاستهلاك والتاريخ اللاوعي الجمعي، فضلا عن أسئلة الشعر الهاجسة بقلق الوجود واللغة والمعنى والاستعارة والذات والجسد،

يظل مشروع أدونيس الشعري والفكري مثارا للكثير من الأسئلة، لاسيما تلك التي تتعلق بشقاوة وعينا، وبمنظورنا لموجهات التاريخ المتحف والتاريخ الاستهلاك والتاريخ اللاوعي الجمعي، فضلا عن أسئلة الشعر الهاجسة بقلق الوجود واللغة والمعنى والاستعارة والذات والجسد، وهو مايعني اختيار مواضعات دائمة التغيير والتحول للشاعر لكي يرى العالم العربي وهو يتورط في شهوة تحوله، وفي رعب صراعاته وحروبه الخارجة عن السياق دائما..
هذه الإثارة ارتبطت بإشكالات وعي الشاعر العربي للحداثة والتاريخ والهوية، والوعي الاغترابي الذي يعيش ورطته الشاعر الرائي، والشاعر الباحث في الأنساق المضمرة للتاريخ وهو يرى انهياراته الكبرى، واذا كان قناع (مهيار) برمزيته اللغوية وهويته الغائرة يمثل مواجهة افتراضية مع هذا التاريخ، فان وضعه كرمز شعري في سياق هذه المواجهة يعني الاستعانة بالشعر بوصفه شكلا للوعي الاجتماعي لممارسة هذه الوظيفة الإشكالية، والدافعة لاستبطان المزيد من الكشف والتوغل...
مهيار الدمشقي ومهيار الديلمي ، الشاعران والقناعان ، يلتقيان عند عتبة المواجهة الموحشة، وعند حيازة الرؤية التي تبيح للشاعر ان يمارس وعيه بالرفض والاحتجاج، وان يؤسس لهذا الرفض شرعنة لاتقوم على الحاجة للتطهير حسب، بل الحاجة للتغيير ايضا..احسب ان الشاعر محمد علي شمس الدين قد اقترب- في حديثه الى جريدة السفير البيروتية- من مرجعيات أدونيس المهيارية، وتلمس مايمكن ان تثيره من اسئلة ومن جدحات وعي بات الكائن الشعري اكثر حاجة اليها، لكي يعيد هيكلة مواقفه لوظائف المعرفة والوعي، لاسيما تلك التي تتعلق بمواجهة خطاب التكفير المعرفي، والتكفير الهوياتي، والتكفير الطائفي والفقهي...
مهيار قد تحول في زمن شعري وسياسي للشاعر الى استعارة كبرى، مثلما كان قد تحوّل صقر قريش، والغزالي، وهذه الاستعارة لاتملك الآن إلا الخضوع لسطوة ذلك التحوّل القهري، او ان تنزع عنها قميص التاريخ المليء بالثقوب والأخطاء، لتلبس قناع من يزيح الأشياء عن سياقها القدري، او يخرجها من متحفها وصندوقها العائلي، والذي يبيح للشاعر غواية ان يتلمس ويجسّ ليكتشف حرارة التحول وشغف اللذة...الكتابة تحت هاجس التحول ستكون لذة حتما، مثلما ستكون دافعا لـ انتزاع ماهو سياقي الى ماهو أنوي/ نصوصي..حدّ ان أدونيس في تلك الكتابة يبدو وكأنه اكثر الشعراء/ الكتّاب شراهة لبعث الأنوي خارج المرآة والتاريخ والمقدس، وباتجاه الانخراط في لعبة النص/ الجسد..
أدونيس قد يكون جرحا نرجسيا في الجسد العربي الصحراوي واللغوي، اذ يعلن (هذا) الجرح هزيمة (هذا) الجسد وتعريته، مثلما يكشف عن أوهامه، وان أية لعبة مجازية للتورية على ذلك سيكون اقرب الى الخديعة، فما يجري اليوم من خراب عربي- شعري وسياسي وهوياتي وطائفي وتكفيري- يضعنا عند عتبة غامضة من الاسئلة، لاسيما تلك التي تعنى بالقادم!! فما هو شكل الدولة العربية القادمة او شكل الحزب او الجماعة او الأمة والهوية؟ وربما ماهو شكل القصيدة القابلة؟ وهل سنحتاج عند صعود القطارات السريعة الى دعاة ام ثوار ام قراصنة ام جنرالات ام فقهاء ام جباة ضرائب او جزيات؟
كل هذا يجري ونحن لانملك مايمكن ان نواجه به فوبيا الانقراض التي تحدث عنها أدونيس مرة، وبات يعرضها دائما على شكل من الصدمات المعرفية والشعرية، اذ لامناص من المواجهة او الهروب، لكن السؤال كيف سنواجه؟ وماهو العدو الذي سنواجهه؟ هل هو الغرب الجديد بحداثاته واستعماراته، ام هي أميركا التي تسللت الى شبابيكنا وأسرّتنا وقمصاننا؟ ام ان الحرب ستكون مع ذواتنا القلقة والخائفة والخائنة، وتحت يافطة شرعية لإذكاء شعلة الجهاد الأكبر ضد النفس الامّارة بالسوء؟
الحديث عن أزمة الفكر والمواجهة، وأزمة الذات والآخر تحتاج بالضرورة الى بطولات أخلاقية، والى مؤسسات والى رساميل ثقافية وتعليمية وإدارية، يمكن ان تعطي للحرب مع النفس او حتى مع الآخر طعما وايقاعا، واذا لم ندرك بان الحرب القادمة هي حرب ثقافية فإننا سنكون كمن يساعد اللص على سرقة بيته، وتعريفه بالممرات السرية لغرف النوم والمكتبة والخزنة العائلية!!
هناك الكثير من الأدونيسات في نسقنا المضمر، لكن مهارة أدونيس الشاعر والمثقف النقدي تكمن في جرأته على ان يكون البطل/ الضحية الداعي والمحرض على نزع الأقنعة، رغم تاريخه الطويل معها، اذ تخلى منذ زمن شعري عن أقنعة مهيار وصقر قريش والغزالي وغيرها ليكون أمام لعبة مرعبة في التعرية، تعرية الوجوه والقيم والثقافات والأفكار، ولايمكن لأحد الآن من الاختباء خلف الحائط او المقدس او التاريخ، والذين يمارسون الاختباء هم قتلة ومجرمون وتكفيرون و(مشعلو حرائق) كما يسميهم دورينمات..
موضوعة أدونيس المثقف في سياق المواجهة هو تعبير عن الحاجة لوعي حاد وجارح، لاستفزاز العقل العربي المستقيل الذي شوه الحديث عنه محمد عابد الجابري، واختار له توصيفا يفتقر للعلمية، وباتجاه وضع هذا العقل على الطاولة لغرض إعادة فحص مقولاته ومفاهيمه، وتعريضه لما يشبه الهزّة الحداثية، تلك التي مازلنا نحتاج الى الكثير من جرعاتها، وربما الكثير من شجاعة أدونيس الذي قال منذ سنوات باننا مهددون، وان لم نعمل على مواجهة التهديد فسنكون عرضة للانقراض.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram