TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > تيرنر: اللوحة تنطلق حرة

تيرنر: اللوحة تنطلق حرة

نشر في: 30 نوفمبر, 2014: 09:01 م

معارضٌ متتالية في لندن اقتصرت على السنوات الأخيرة لمبدعين ثلاثة: ماتيس، تيرنر ورَمبرانت. والسنوات الأخيرة للرسامين الكبار عادة ما كانت مصدر حيرة نقدية: هل أعطت شحنة خبرة روحية وتقنية للرسام، أم كانت مُنحدراً في كليهما؟ سبق أن كتبت عن ماتيس القص واللصق، واللعب البهيج بالورق الملوّن، في سنوات عجزه الأخيرة عن المشي. وما رأيته لعباً لدى ماتيس، أراه تأملاً بالغ الجدية لدى الانكليزي تيرنر(1775 ـــــ1851). فهذا المعرض الاستثنائي(في التيْت برِتِن) والذي بعنوان "تيرنر في سنواته الأخيرة: اللوحة تنطلق حرةً"، يقتصر على السنوات الست عشرة الأخيرة من حياته. العشرةُ الأولى الناشطة بالأسفار، والستُّ الثانية المتعبة المريضة. وفيها يعزز تيرنر الموقفَ الذي يرى أن نتاجَ السنوات الأخيرة هو زبدةُ خبرةٍ روحيةٍ وتقنيّة، وفيهما لا يكل عن الاكتشاف، في تقنية اللون، وفي الرؤى التي جعلت أحدَ نقاده يصفها بـ"الألغاز العجيبة". معظم نقاد تلك المرحلة المتأخرة لم يكن مرتاحاً من لوحة تيرنر التي كانت مصدر سخريته أكثر الأحيان، وكأنها وليدة "عين مريضة وأصابع طائشة". حتى أن الناقد الشهير راسْكِن، الذي كان شديدَ الحماس له، اعتقدَ أن لوحة مرحلته الأخير إنما "هي وليد مرض عقلي".
وما رأيته هو ألغاز عجيبة، ولكن ليست محيرة. فغمرة الاستغراق المتطرف بالضوء، ومن ثم اللون، لدى تيرنر، منذ بدأَ الرسم، لابد أن يصلَ برؤى هذا الفنان إلى التجريد. هذه المسيرة ألهمت الانطباعيين مع نهاية القرن التاسع عشر، فأصبح لهم رائداً. كما ألهمت تجريديي الحداثة في القرن العشرين فلم يقلّ ريادةً. الدرسُ الأول مع الانطباعيين تمثل بتماهي الخطوط مع اللون. لقد تلاشت في لوحته الخطوطُ المعتادة التي تفصل كتل الأشكال والألوان عن بعض، فالسحب والسماء، والأفق والبحر، والشمس وانعكاسها في الماء، تكاد تتوالد من بعض. ولكن ثمة فارق جوهري يميزه عن الانطباعيين الآتين هو أن ما يسعى إليه إنما هو التعبير عن قوى الروح الكامنة في العالم، لا الاكتفاء بتسجيل الانطباعات البصرية. أما الدرس الأول مع التجريديين فيتمثل في الاستغراق باللون.
المعرض يبدأ مع 1835 حين كان تيرنر في الستين من العمر، أولى خطوات الشيخوخة، والتوق الغريب لمزيد من خبرة الروح. فتجول، بصحبة دفتر تخطيطاته، في كل أوروبا بوسائل النقل المُتاحة، أو على القدمين، إن لم تتوفر. الضوء في هذه المرحلة يعزز من وجود الطبيعة وأشيائها. ولكن هذا الضوء مع السنوات يبدأ سطوته التدريجية، حتى تصبح مُطلقة، فتلاشي حدود الأشياء تماماً: ضوء وانعكاساته في الطبيعة، ولكن على هيئة لون لا يقلّ إضاءة. إن مسار لوحاته في مرحلته الأخيرة هذه عبارة عن توق باتجاه التلاشي، بحيث لا يُبقي من الحياة والأحياء والطبيعة غير ضباب وفراغ من الضوء واللون.
إنه يختلف عن نزعة التجريد الحديثة بعمق تعلّقه بالطبيعة وهي في عز جبروتها وعنفها (العاصفة، المطر، البحر، الضباب..)، وبالشمس التي تكشف عن كل ظواهرها. وما اللون والتشكيل إلا وسيلة لذلك. في حين لا يكشف اللون والتشكيل في الفن التجريدي إلا سرَّ اللون والتشكيل ذاتهما.
حتى الشخوص التي يرسمها، مستوحاةً من القصص الدينية، التاريخية أو الأسطورية لا تختلف في رؤيتها غائمةً أو توشك على التلاشي عن أشياء الطبيعة ذاتها. فالملاك بجناحيه لا يكاد يأخذ شكلاً بصرياً إلا بالكاد، وكذلك آلهة وأبطال الحكايات اليونانية: "أبولو، ميركوري، ديفني، آريادنا. توثيق الحكاية لا يعنيه بقدر ما يعنيه فرصة التأمل التي يوفرها اللون.
تيرنر لم يكن بارعاً مع ألوان الزيت على الكانفس فقط، بل كان مولعاً بالألوان المائية، مُبرّزاً فيها. والمعرض قدم عدداً منها، إلى جانب عدد من دفاتر تخطيطاته. وخارج عرض "التيْت مودِرْن" هناك وعد من سينمات لندن بعرض الفيلم الجديد عن حياته، بعنوان "السيد تيرنر" (قرابة ساعتين ونصف)، للمخرج البريطاني مايك لي وبطولة تيموثي سبال، الذي حاز فيه على جائزة أحسن ممثل في مهرجان كان 2014. وأنا بانتظار مشاهدته.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram