أي كلام في الثقافة، أية ثقافة، لا بد أن ينطوي على أهم عنصر فيها، حياة واصطلاحاً، أعني به المثقف منتج هذه الثقافة وقطبها، وما يتبقى يمثل مدارات تلك الثقافة أو فضاءاتها، ضمن شروط عامة، لا بد منها، أيضاً: حرية التعبير، على وفق إدراك المعنى الأخلاقي للفعل الثقافي ارتباطاً بمسؤولية المثقف، موقفاً واعياً قادراً على الكشف والإضاءة والتغيير، معرفياً وجمالياً.. باختصار، كما تعلمنا، شباناً، المثقفون هم حاملو الوعي إلى غيرهم في طبقات وفئات المجتمع.
على صعوبة وضع تعريف معتمد للثقافة ومنتجيها (المثقفين) لكن المقصود، الآن وهنا، هي مجمل النشاطات العقلية في العلوم والآداب والفنون، و (هم) من يقومون بتلك النشاطات.
تميزت الثقافة، عبر مسيرتها، منذ اكتشاف الزراعة، بالجوهر الجدلي الذي تنطوي عليه، من حيث تنوع/ تعارض منتوجاتها الفكرية والعملية، حتى لو كانت المصادفة عنصراً مهماً في بعض المكتشفات، على أن الدور الفردي هو الملهم في حياة الجماعة وليس العكس، منذ ذلك الإنسان/ الجد الذي صفن وهو يرى إلى ما تساقط من الشجرة القريبة من ثمار يمكن أن ينبت ثانية حيث سقط.
هذه الحقيقة القديمة التي مثلت فتحاً ثقافياً في حياة البشرية، صارت معلومة بسيطة بعد العواصف الفكرية والعلمية التي اجتاحت كرتنا الأرضية الصغيرة منذ الثورة الصناعية في أوروبا وحتى اليوم، في سلسلة مترابطة وإن أنجزت بجهود فردية أو جماعية (فرق البحث المتخصصة) مستقلة عن بعضها بعضاً، لكنها تجاورت وتغذت واستعانت بجهود العباقرة، كل في اختصاصه، أينما أقاموا، في أبعد بقعة من هذه الأرض/ القرية ومهما تباعدت السنوات، فقول ألبرت آينشتاين، مثلاً، بشأن القيمة الكبرى للإنسان في المجتمع، ثروة حقيقية، بل أهم من أية ثروة، هو قول كارل ماركس نفسه بوصف الإنسان بأنه "أثمن رأسمال".
في مجتمعنا العربي، والعراق عنوان العمود، لم يمثل الإنسان سوى أبخس رأسمال، ولا أظنني بحاجة إلى إثبات هذا الحكم المعياري، فالوقائع والأحداث ليست بعيدة عن أنظارنا، إذ لعبت حرب الخنادق العميقة في حياتنا أخطر عمليات التكسير في جسد الثقافة العربية/ العراقية وأشدها فتكاً بالإنسان بعد أن تقاسمتنا الأوهام الآيديولوجية، بطبعاتها المحلية والمترجمة، وقسمتنا إلى ثلاث قبائل رئيسة: اليسارية والقومية والإسلامية ((.. ومن المفارقات المضحكة والمؤسفة أن ثمة تقاطعات (مشتركات!) بين مواقف هذه القبائل وأفكارها بلغت خلال العقود الثلاثة الأخيرة أوضح تجلياتها)) ليكون صدام حسين (مثلاُ مرة ثانية) محصلة ثقافية للقبائل الثلاثة وناتجها المختبري.
وجدت مواقف وسلوكات هذه القبائل أثرها القوي والخطير على مجمل الحياة الثقافية العراقية، والعربية بدرجة أقل بقليل، في إحداث الانكسار بمعناه العنيف لا بمدلوله الفني، فكان أن انكسرت ثقافتنا المحلية في مختلف أصنافها بدءاً بالأزياء ومروراً بالأغنية وليس انتهاء بباقي الأنشطة الإبداعية من علوم إنسانية وأدبية وفنية ((طبعاً ليس من علوم طبيعية ولا علماء منذ المرحوم عبدالجبار عبدالله الذي أهين في أقبية الحرس القومي وسرقوا منه حتى قلمه الحبر، وبالمناسبة كان (هدية آينشتاين له)).
بانكسار المجتمع تنكسر أهم مقومات وجوده (الثقافة) لينكسر منتج هذه الثقافة (المثقف) على أكثر من جبهة: من ميدان اشتغاله، منتجاُ للأفكار والقيم في بيئة سياسية بوليسية، قبائلية، وصولاً إلى حياته اليومية وجملة التهديدات المباشرة واليومية لوجوده البشري.
المثقف، إنساناً، أكثر أبناء المجتمع تحسساً وهشاشة، في الوقت نفسه، وفي أكثر الأحيان أول المنكسرين، وإذا نجا، لتدبير ذكي أو لمصادفة نادرة من نيران القبائل المتحاربة، فأنه أكثر الناس ارتباكاً عندما تكون البيئة المحيطة على غاية الالتباس والتشوش، كي لا أقول أكثرهم تشوهاً، في أحيان كثيرة.
المثقف من أولئك الذين يحسون المطر لا أولئك الذين يبتلون حسب. كا تقول أغنية الجامايكي بوب مارلي.
انكسارات في الثقافة العراقية– المثقف مرتبكاً
[post-views]
نشر في: 1 ديسمبر, 2014: 09:01 م